: آخر تحديث

الشيخ ربيع بن هادي المدخلي: إمامٌ في زمن الغربة

2
2
2

حسين الراوي

في عام 1425 هجري/ 2005، كنت في منطقة مكة المكرمة لتأدية مناسك الحج، وفي رابع أيام العيد الموافق يوم الاثنين 24 يناير، اتجهت من حيّ العزيزية عبر سيارة الأُجرة إلى حيّ العوالي، وكانت المسافة بينهما ليست ببعيدة، وذلك من أجل تلبية دعوة خاصة على الغداء قدمها لي أحد الأصدقاء السعوديين الكرام من سكان حيّ العوالي.

وعندما اقتربت من الوصول إلى منزل ذلك الصديق، رأيت تجمهراً من الناس أمام أحد المنازل في ذلك الحي، والكثير من السيارات التي كانت راكنة بالقرب منه، لقد كان شيئاً لافتاً للنظر!

وحينما استقبلني ذلك الصديق عند باب منزله، وبعد أن صافحني وعانقني، سألته أثناء وقوفنا، وأنا أُشير نحو ذلك التجمع الكثيف غير المنظم أمام منزل أحد جيرانه، ما سببه؟!

فقال إن ذلك المنزل لرجل صالح، يحبه الناس، ويأتون لرؤيته من السعودية وخارجها، وأنه في موسم الحج يزداد عدد الزائرين له بشكل كثيف جداً، لدرجة أن بعضهم لا يجدون موضعاً للجلوس في الداخل، فينتظرون في خارج المنزل إلى أن تتاح لهم فرصة الدخول، فمددت بصري نحو ذلك المنزل والدهشة تملؤني!

‏وبعد أن تناولنا الغداء بمدة، طلبت من صديقي أن يُدخلني على جاره، ذلك الشيخ الذي يزدحم الناس عنده، فقام من مكانه وألقى نظرة سريعة من خارج الباب نحو منزل الشيخ، ثم قال لي: لقد أصبح الازدحام الآن ازدحاماً مقبولاً، نعم يمكننا الآن أن ندخل على الشيخ، خصوصاً أن الشيخ والمقربين منه الذين في خدمته يعرفوني ويحترموني ويُقدروني.

من الباب الخارجي لمنزل الشيخ إلى أن دخلنا لمجلسه، لم نكن نستطيع الدخول لو لا أن الله تعالى وفقنا بمساعدة أحد أقارب الشيخ، حيث اتصل به صديقي هاتفياً ليستقبلنا عند الباب.

في خطواتي الأولى في داخل ذلك المجلس المزدحم، رأيت عن يميني وعن يساري وأمامي من الناحية المقابلة لباب الدخول الكثير من الناس، الذين أتوا من دول عربية وأجنبية، من أجل الالتقاء بالشيخ والسلام عليه واستفتائه وأخذ رأيه والاستماع لنصائحه.

‏الوضع حينها لم يكن متاحاً ولا ملائماً بأن نتجه فور دخولنا للسلام على الشيخ! فعلى الرغم من شدة الزحام في المجلس، كان هناك أيضاً مجموعة من الزائرين واقفين متحلقين حول الشيخ، لدرجة أنني لم أستطع في تلك اللحظات - على الأقل -رؤية الشيخ من مكاني!

‏وبعد مضي ما يقارب من 15 دقيقة، جاء ثلاثة أشخاص من داخل منزل الشيخ، وقاموا بتفريق أولئك الناس الذين كانوا واقفين بالقرب من الشيخ، وطلبوا منهم الجلوس، حينها رأيت الشيخ بشكل مباشر، ولم يكن حينها يجلس على أي كرسي كما ظننت! بل كان ممدداً على فراش قديم! نعم فراش قديم، ولم يكن سريراً حتى!

فقمت سريعاً من مكاني نحو الشيخ، فلما وقفت عنده أخذت أنظر له وعيناي في عينيه، وإذ بي أرى كهلاً طاعناً بالسن، نحيف البنية، ذا شعر أبيض في رأسه ولحيته، وكان حينها يرتدي (فانيلة) داخلية وإزاراً يلفه حول خصره.

مددت يدي له فصافحني، ثم جذب يدي نحوه، فلما جلست، جلس الشيخ مبتسماً، وسألني: ما اسمك؟ ومن أي البلاد أنت؟ فلما أجبته، أخذ يسألني عن أسماء القليل منها أعرفه والكثير لا أعرفه.

سألت الشيخ إن كان يشتكي من مرض ما، بسببه أصبح يجلس ويتمدد على ذلك الفراش؟ فأجابني أنه يعاني من مرض في معدته منذ أيام طويلة. وسألته بعض الأسئلة، وأخبرته بأني أتيت برفقة صديقي الذي هو جاره، فسأل عنه الشيخ، وطلب أن يراه، فقام صديقي من مكانه للسلام على الشيخ، ولقد فرح الشيخ برؤيته.

‏ذلك الشيخ هو العالِم الجليل الدكتور ربيع بن هادي بن عمير المدخلي، رحمه الله تعالى.

في يوم الاثنين، الرابع من شهر المحرم 1447هـ، الموافق 9 يوليو 2025م، توفي الشيخ وغابت شمس العالِم الرباني ربيع المدخلي، لكن نوره لا يزال ساطعاً في كتبه وتسجيلاته ورسائله وتلاميذه المنتشرين في العالم.

رحل الشيخ ربيع، لكن بقي صوته عالياً صادحاً في ميادين العلم، وكتبه شاهد صدق على رجل عاش للدين، ونذر عمره للدفاع عن العقيدة والمنهج، لا تأخذه في الله لومة لائم.

لم يكن أثر الشيخ ربيع خفيّاً على أئمة عصره، فقد أثنى عليه كبار العلماء، منهم:

الشيخ عبدالعزيز بن باز، رحمه الله، حيث قال عنه: (الشيخ ربيع من أهل السنة، ومعروف لديّ، وهو صاحب سنة وصاحب حديث).

وقال عنه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، رحمه الله، (الشيخ ربيع من العلماء الذين نحبهم في الله، ونشهد له بأنه من أنصار السنة، وقد قرأت له واطلعت على كتبه، ورأيت فيها قوة ووضوحاً).

وقال عنه الشيخ محمد بن صالح العثيمين، رحمه الله: (الشيخ ربيع من أهل الخير والعلم والعقيدة السلفية، وهو من أهل السنة والجماعة، ومن دعاتها، نسأل الله أن يوفقه لما يحب ويرضى).

ترك الشيخ ربيع عشرات الكتب والرسائل في العقيدة والمنهج وعلوم الحديث، منها:

-منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله.

-أضواء إسلامية على عقيدة سيد قطب وفكره.

-منهج أهل السنة والجماعة في نقد الرجال والكتب والطوائف.

-النكت على كتاب ابن الصلاح (رسالة الدكتوراه).

بين الإمامين مسلم والدار قطني (رسالة الماجستير).

وقد تميّزت كتبه بالتحقيق العلمي، والتأصيل المنهجي، والأسلوب السهل مع قوة الحجة.

‏رحل الشيخ ربيع المدخلي إلى ربه عن عمر 92 عاماً، بعد أن أعطب الكثير من آراء المنحرفين عقائدياً حول العالم، كان يكتب ضدهم ويُسجل أشرطته ويبارزهم بالقرآن والسنة دون كلل أو ملل، محتسباً ذلك في سبيل الله تعالى، حتى أطفئ ذِكر الكثير منهم إلى الأبد.

‏اللهم ارحم الشيخ ربيع المدخلي، وأجزه عن الإسلام وأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-خير الجزاء، فإنه عاش عمره يذود عن دينك، وينشر صحيح سُنة نبيك.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.