بينما تتصاعد التوترات في السويداء، تتكشف حقائق ميدانية تشير إلى هجوم واسع لم يكن عفويًا ولا معزولًا، بل منظمًا ومتعدد الأدوات. تزامن القصف المدفعي واستخدام المسيرات مع سلوكيات عقابية تحمل طابعًا طائفيًا، مثل حلق شوارب شباب ورجال ومسنين وشيوخ دروز وتصويرهم ونشر الفيديوهات بهدف الإذلال العلني. هذه الجرائم، التي لم تكن الأولى من نوعها، بل وجدنا مثيلاتها في جرمانا وصحنايا في أواخر نيسان (أبريل) الماضي 2025 كشفت عن تحول نوعي في طبيعة المواجهة، من إثارة فتنة. نشر ثقافة الكراهية. انتهاكات ومن ثم النتيجة المخطط لها: هجوم مسلح يستهدف رموز الكرامة المجتمعية، ووجودهم. ضمن هذا السياق، تبرز قضية الشيخ مرهج شاهين، الذي قيل إنه توفي بعد تعرضه للإهانة المباشرة، بوصفها نقطة فاصلة في تفكيك ما يحدث، لا باعتباره فردًا بل كمؤشر على انهيار منظومة الاحترام والردع.
أجل. لا يبرز في قلب هذا المشهد المأساوي، مشهد الدم وحده، بل صورة الشيخ مرهج شاهين، شيخ طاعن في السن، لم يغادر بيته حينما تراكض الصغار والنساء في الأزقة، اعتقد أن "شيبته" ستكفي كي ينجو، أن شاربيه اللذين رعاهما طوال عقود سيمنحانه حصانة أمام السفه الأعمى. لكن الهجمة البربرية كانت أعمق من أن تفرّق بين الطفل والهرم، إذ إن آلة الإذلال التي أُطلقت بلا كوابح لم تكتفِ باجتياح البيوت وسرقتها ونهبها وإحراقها، بل امتدت إلى ما تحت الجلد، إلى المعنى المترسّب في ملامح الجيل. إذ حُلق شارباه، وصُوّر وهو يُنتزع من كرامته، وتداول الجناة الفيديو كأنما يوزعون غنيمة على شركاء العار. وقيل إنه مات متأثرًا لا بطلقة، بل بالهول. هول محاولة النيل من الكرامة. هول الإذلال. الهول الذي استقر في صدره بعد أن أُهين أمام أهله.
ليس المشهد حادثة معزولة، بل هو تكرار لحلقة سوداء، إذ سبق أن نُشرت في أحداث جرمانا مشاهد مقززة لحلاقة شوارب شبان دروز. واليوم تتجدّد، لا بوصفها فعلًا عشوائيًا بل كجزء من الهجوم الشامل، المخطط له بعناية، بالتوازي مع قصف جوي، واقتحامات منظمة، وتخادم مكشوف بين فصائل مسلحة ومجاميع شذاذ همجية منفلتة تُطلق على نفسها أسماء المدن والبلدات، وتعلن بصوت جهور أنها جاءت "لتُصفّي حساباً عقدياً قبل ألف سنة" مع الدروز. الأباة. رجالات الشهامة والأنفة والكبرياء والشجاعة، في إطار "فزعات قبائلية طائفية مقيتة"، في ظل الواقع المتسيد.
تأسيسًا على ذلك، لا يُمكن فصل ما جرى عن صلب السياسات التي يُدير بها النظام السوري الداخل، إذ بينما يلهث لتثبيت بقائه عبر تفاهمات خارجية، لا يتردد في تفكيك ما تبقى من التنوع الداخلي، عبر الإمعان في تفريغ البلاد من أي احتمال للفيدرالية أو الاعتراف بالتعدد. لا لأنه لا يستطيع إنجاز، بل لأنه يرفض الاعتراف بالآخر خارج سياق سوريا ذات الدين الواحد. القومية الواحدة. بل الجهادية المأفونة. من هنا فإن إطلاق العنان لقوى غريبة الانتماء، بل دخيلة: تركمانستانيي النزعة، أذريي الولاء، وسواهم من الملتحين متعطشي الدماء الذين لا يعرفون من البلاد إلا خريطتها التي يمكن تمزيقها على قياس الغنائم، لم يكن إلا ترجمة لنية مسبقة: تفتيت المجتمع من الداخل باستخدام أدوات تبدو من الهامش، لكنها تتغذى من القلب النابض للسلطة.
مرهج شاهين ليس اسمًا عابرًا، بل هو جزء من العلامة التي تُنقش على ضمير البلاد حين تفقد الحد الأدنى من اتزانها - وهو المجسد لجزء من الذاكرة الروحية. الذاكرة البصرية. الوجدانية - لا يمكن النظر إلى تلك اللحظة بوصفها مشهد إذلال فردي، بل كناية عن حرب أُعلنت على كرامة طائفة كاملة، وعلى ما تمثّله من عصيّة وجود، ومن ذاكرة لم تتمكن السطوات المعادية عبر العقود بل التاريخ من تدجينها، وهو شأنها وعلامتها الفارقة، أية كانت قناعاتنا ورؤانا. ما جرى للشيخ، جرى للبيت، وللجار، وللمشفى الذي لم يسلم من الرصاص، إذ نُهبت بعض مرافقه، ووُضع المقاتلون الجرحى فيه تحت الخطر لا في غرف العلاج، والجثث تُركت في الطرقات، كأنما المطلوب ليس فقط القتل، بل الترويع، وخلخلة الثقة بين الناس والناس، وبين الناس ونفوسهم.
من هنا نرى أنَّ النظام لم يكتفِ بالتخلي، بل بارك الانهيار، واستثمر في انكشاف الجبهة الجنوبية لتغذية مزاعم الحاجة إلى "ضبط الأمن"، بينما يُرسل الرسائل إلى الحلفاء والخصوم أنه الممسك بكل خيوط الجريمة، على إيقاع وعود في مؤتمرات وملتقيات مخفية، ترسب بعضها على لسان رسول ذي بركات مشتراة، ونذير مشترى!
وإنما المؤلم أن الفتنة لم تنفجر من تلقاء نفسها، بل جُرّ لها أبناء الجبل، ووجدوا أنفسهم يواجهون آلة تدمير لا تميز بين من يحمل السلاح ومن يزرع الأرض. فاضطروا للدفاع، لا طلبًا لقتال، بل اتقاءً لسحق تام. كان يمكن للكرامة أن تُصان، لكن من خطّط، أراد العكس تمامًا. حيث تُفكك الأحداث، يظهر التنظيم لا الفوضى، فالإعلام - لا سيما بعض فضائيات البترو دولار المأجورة منه - يواكب اللحظة بتأطير لمشاهد والصور، يشرعن الانتهاك بذريعة الرد، ويُجيّش العشائر كما لو كانت كتائب غزو داعشي، ضد أهلين، كأنهم ليسوا من عداد مجتمعات ونسيج البلد. هكذا، لا تخرج حلاقة شارب شيخ من السياق، بل تدخل إلى صلب معادلة: إذلال الرمز تمهيدًا لتهشيم البنية.
الدروز، الإيزيديون، من عداد طوائف ربطها التاريخ بشيء من الحذر تجاه السلطة، لكنها كانت وما زالت ترى في "الشارب" رمزًا للوقار. كانوا "يربّونه" كما تُربّى الكلمة في بعدها المقدس. فهو لم يكن مجرد شعر أسفل أنف ظليل عال كجبل، بل توقيعًا أخلاقيًا على الوجه وتحت سطوة الجبين. إذ إنه حين يُحلق عنوة، لا يسقط عنه الشعر فقط، بل تسقط معه طبقة من الحصانة، من التاريخ، من الحضور الذاتي. وحين يُصوّر الفعل، ويُنشر، وتُضاف إليه عبارات التشفي، فإن الجريمة لا تكون في الفعل، بل في القصد المركّب الذي يقوده: سحق الاعتبار، محو الحضور.
إنما ما يجري الآن لا يمكن تسويغه تحت أي ذريعة، حتى لو اندفع شبان من الطرف المُعتدى عليه إلى ردود فعل زادت من تشظي المشهد، فالواجب كان على من بيده القدرة أن يمنع، لا أن يترك الفوضى تتقدّم على ظهره.
من هنا، فإنه ما من تفسير يُمكن أن يُقبل لما جرى سوى أن ثمة من أراد أن يقول: هذه البلاد لا يمكن أن تبقى موزعة على قواها المتعددة، بل يجب أن تُعاد صبّها في قالب واحد، ولو بالسكاكين، ولو على أنقاض من بقوا ناصبين الشارب فوق المعنى.
مرهج شاهين، لم يمت كأي شيخ. مات كمن كُسرت ذاكرته قبل صدره، وكأن التاريخ نفسه سُحب من أطرافه. ليست القصة أن رجلًا مات بعد محاولة إذلال متعمدة ممنهجة، بل أن الإذلال أصبح أداة معلنة، مخططاً لها، غير اعتباطية، تُنفّذ وتُصوّر وتُسوّق، وكأن ثمة من يكتب بيانًا آخر لإعادة تعريف الوطن على قياس من حلقوا لا من صمدوا.