: آخر تحديث

لعنة الوعي

2
2
2

أن تستيقظ في مجتمعٍ جامد، يشبه أن تصحو من حلمٍ جميل لتجد نفسك مدفونًا حيًّا!

الجدران حولك من إسمنت لا يعترف بالأسئلة، والهواء مسمومٌ بالإجماع، والعيون تحدّق فيك كأنك ارتكبت خطيئة أن تفكّر!

الوعي في مكانٍ كهذا لعنة، تلعنك ثم تنزع عنك حق البكاء أو الاعتراض، في مجتمع كهذا أن تكون حيًّا بالفكر أخطر من أن تكون ميتًا بالجسد.

الوعي ليس الإدراك، بل هو الاختراق، أن ترى ما لا يريد الآخرون رؤيته، أن تفهم ما لا يجب أن يُفهم، أن تضع يدك على الجرح الذي اعتاد الجميع أن يصفّق له. الوعي لا يمنحك القوة، بل يحمّلك عبء التناقض. فكلما ارتفع وعيك، تضاعف صمتك. وكلما تعمّقت رؤيتك، ازداد شعورك بالعزلة. فأنت تسير بين قومٍ لا يسمعون، ولا يريدون أن يسمعوا.

مجتمعٌ يقدّس الشكل ويذبح الجوهر، يصفّق للغفلة ويسخر من الصحوة، يرفع من لا يرى ويسحق من يرى أكثر من اللازم.

ليس هناك ما هو أكثر ألمًا من أن ترى الجدار وهو يُعاد طلاؤه كل يوم بلون جديد، بينما التصدّع في أساسه يتّسع. أن تراقب العالم من حولك ينهار ببطء تحت أوزان الكذب، والكلّ يرقص فوق الرماد. أن ترى من يدّعون الحكمة وهم يُغذّون الجهل بأناشيد التبجيل، يدفنون كلّ فكرة جديدة قبل أن تنطق باسمها، ويصنعون من عرق الماضي سُكّرًا للغد المسموم.

المجتمع الجامد لا يقتل بالفأس، بل يقتلك بالاحتواء الزائف. يربّت على كتفك حين تصمت، ويجهّز لك مشنقة من الألسنة حين تنطق. كل لحظة وعي تعني خيانة للقطيع. أن تفكّر يعني أن تخرج عن النص، والخروج عن النص يعني أنك خطر… خطرٌ يجب عزله، تحقيره، أو ببساطة، تسفيهه حتى يُنسى.

الوعي في هذا المجتمع يشبه صوتًا ضعيفًا داخل دوّامة صاخبة، يُغرقه الزعيق ويبتلعه الطوفان. أنت تعلم، وهم يجهلون، لكنهم أقوى… لأنهم أكثر. لأنهم متشابهون. لأنهم يحبّون بعضهم لأنهم يكرهون المختلف. والمختلف، في عرفهم، ليس إنسانًا بل شبهة، ظاهرة، خلل في البنية يجب إصلاحه أو طرده.

وما أقسى أن تحاول إصلاحهم… أن تحاول إخراجهم من عتمة الرضى الكاذب، لتجدهم يطفئون مصباحك ويلقون بك في العتمة ذاتها، لكن هذه المرة بدون جلدهم السميك. لأنك وعي… والوعي بلا جلد، بلا غلاف، بلا قشرة تحميه من الانكسار. الوعي هشٌّ كقلب أمٍّ في ساحة إعدام.

أنت لا تنتمي، ولن تنتمي. ستجلس بينهم، وتأكل معهم، وتبتسم حين يضحكون، لكنك في داخلك تعلم أنك كائن آخر. لست خيرًا منهم، ولا أذكى، فقط… مختلف؟

نظرتك للوجود محفورة بأظافر الأسئلة. لا تستطيع أن تنسى ما فهمت. وكل فهمٍ جديد يفتح لك بابًا لا رجعة منه. كل إدراكٍ جديد هو غرفة بلا نوافذ، كل إجابة… لعنة أخرى.

يعلّقون على جدرانهم شعاراتٍ عن التغيير، لكنهم يرجفون من كل فكرة تحمل بذرة الاضطراب. يخافون من العيون التي لا تخاف، من الكلمات التي لا ترتجف، من الإنسان الذي يمشي وحده ولا يطلب دليلاً، لذلك يقتلون المختلف بكل وسيلة: مرةً بالصمت، ومرةً بالسخرية، يطفئونك برفق، كمن يضع قطرة ماء فوق شمعة… لا يسمع أحد صوت الاحتراق.

في المجتمعات الجامدة، يصبح البقاء مرادفًا للتشابه. أن تنجو يعني أن تتلوّن بلونهم، أن تمحو زواياك الحادة، أن تطفئ نيران الأسئلة داخلك وتعيش على رمادهم. لكن من وعى لا يقدر على التظاهر طويلًا، هو يعرف أن كل هذا ديكور. أن خلف الستار، هناك قبحٌ منسّق، وخوفٌ ممنهج، وعبودية باسم الطاعة.

وأسوأ ما في الأمر أن اللعنة لا تتوقّف. كلما حاولت أن تنسى، أن تُطفئ فكرك، أن تعود للنوم، يصفعك الوعي كمنبّه لا يُغلق. لا يمنحك فرصة الهروب. كأنك وُلدت بنعمةٍ لا تتوافق مع عصرٍ فقد كل معنى. ولا تستطيع أن تُفسّر للعالم أنك لا تريد أن تكون ضدّه، لكنك فقط لا تستطيع أن تكون جزءًا منه.

الوعي سلاح منفى. يبعدك عن قريتك الأولى، ويضعك في مدينةٍ غريبة، تزداد فيها المعرفة ويقل فيها الأمان. أنت تعرف أكثر… لذلك تخاف أكثر. تفهم أكثر… لذلك تحزن أكثر. وتدرك أن السعادة ليست في الفهم، بل في القدرة على الجهل عند الحاجة.

لكنك لا تعود. لا أحد يعود بعد أن يرى.

فالوعي لعنة…

لكنها اللعنة الوحيدة التي تمنحك، ولو للحظة، شرف أن تكون إنسانًا.

 

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف