منذ أن كان العربي يشقّ الفيافي على صهوة ناقته، ويتخذ من الصوت جسرًا إلى الحنين، والصدى شرفة أخرى للبوح، نشأ الشعر في ثوبه الأول حداء، لم يكن نصًا مكتوبًا بقدر ما كان رجع صدى لقلبٍ يمرِّر الوقت شجنًا في بيداء خالية إلا من حنينه وذكريات الطلول حوله، فالحداء، وهو الغناء الذي يُقال للإبل كي تسرع في مسيرها، لم يكن مجرد صوتٍ وظيفي، بل كان الشكل البدائي للشعر العربي، ينطلق من القلب قبل أن يصوغَه العقل، ويُقال ليُسمع لا ليُقرأ، وبهذا المعنى ولد الشعر العربي مغنّى، وظل طويلًا مقترنًا بالصوت أكثر من الورق، ولئن حفظت الدواوين لاحقًا القصائد، فإن الصوت هو من أخرجها إلى الناس، وأدخلها في وجدانهم، ولا تزال العلاقة بين الشعر والغناء تحمل في جوهرها هذا الأصل المشترك، وإن تبدّلت صورها.
في العصر الحديث، ومع ظهور الأغنية العربية بشكلها الفني المتكامل، عاد الشعر إلى أصوله الصوتية، لكن ضمن شروط جديدة فرضها اللحن والإيقاع والجمهور، وهنا بدأت إشكالية فنية وثقافية تطرح نفسها: هل الغناء يُشيع القصيدة ويأخذها للانتشار والحضور أم يُضعفها فنيا؟ وهل الصوت، حين يعلو بالنص، يمنحه الخلود أم يختصره؟
لا شك أن الغناء كان الوسيلة الأهم في إيصال الشعر إلى المتلقي العربي المعاصر، فقصائد مثل الأطلال لإبراهيم ناجي، وقارئة الفنجان ورسالة من تحت الماء لنزار قباني، أو حتى مواكب جبران أصبحت جزءًا من الذاكرة السمعية الجمعية، ليس لأنها طُبعت في دواوين، بل لأنها قُدّمت بصوت أم كلثوم وعبد الحليم وفيروز، فلقد استطاع الغناء أن يفتح أبواب الشعر المغلقة، ويمنحه جسدًا من نغم، وملامح من حياة، لكن في المقابل، لا يمكن تجاهل ما يُحدثه الغناء من اجتزاء أو إعادة ترتيب للنص الشعري، ففي كثير من الأحيان، يُختار من القصيدة ما يُناسب اللحن، ويُترك ما لا يخدمه، فيتحوّل النص إلى مقاطع متفرقة، وقد يُفرَّغ من تماسكه البنيوي والفكري، وهو ما يطرح تساؤلات نقدية حول حدود الإبداع المشترك بين الشاعر والملحن، ودور المطرب كوسيط قد يُعيد تشكيل المعنى، أو يُخضعه لمنطق السوق، لقد أصبح المغني أحيانًا أكثر حضورًا من الشاعر، وصارت شهرة القصيدة مرتبطة بالصوت الذي أدّاها، لا باسم من كتبها، وهو أمر وإن كان يساهم في انتشار الشعر، إلا أنه يهمّش النص الأصلي، ويضعه أحيانًا في مرتبة لاحقة بعد الأداء، ومع ذلك، فإن العلاقة بين الشعر والغناء لا تزال من أكثر العلاقات الفنية خصوبةً وتشابكًا، إنها علاقة تحتاج إلى توازن دقيق: بحيث يُغنّى الشعر دون أن يُجتزأ، ويُسمع دون أن يُبتذل، فيمنحه اللحن طربيّته دون أن يُنتزع منه المعنى، فليست كل قصيدة صالحة للغناء، ولا يجب لكل غناء أن يتحول إلى سلطة على النص، إن الشعر، كما كان في البدء، يحتاج إلى من يُنطقه بصوتٍ يليق به، لا بمن يختصره في جملة تُردَّد، فالغناء ليبقى فنًّا راقيًا وداعمًا للصوت الشعري عليه أن يحترم النص كما يحترم اللحن، وأن يُدرك أن الكلمة -لا النغمة وحدها- هي التي تصنع الخلود، لهذا تظل القصيدة في انتظار المغني الذي يفهمها، لا الذي يستهلكها، فيُنشدها بالتالي كما خُلقت بنبضها الكامل، وموسيقاها الخفية، وأفقها الذي لا تحدّه نغمة واحدة.