: آخر تحديث

الحرب على الدروز: سباق للتفوق على جرائم الأسد

1
1
1

لم تكن السويداء في أي يوم من الأيام ساحة حرب ضد الدولة، بل كانت قلعة من قلاع الكرامة والصوت المدني الذي رفض الانجرار إلى الفوضى الطائفية التي غذّاها النظام السوري في سائر البلاد. ومع ذلك، لم يَغفر النظام لهذا الجبل صموده، وحياده، وممانعته الاستبداد أنى تطلّب الأمر تاريخيًا، ولو على نحو منفرد، فقرّر أن يعاقبه بما لا يُعاقب به حتى الخصوم المسلّحين.

ما حدث في السويداء خلال الحملات الأخيرة ليس مجرد تجاوزات، بل هو جرائم متكاملة الأركان، ارتُكبت عن سبق الإصرار، بغطاء سياسي وعسكري، وتواطؤ إعلامي. إنها حرب مفتوحة ضد الدروز، ضد مدينة رفضت الانكسار، ضد سكان أرادوا البقاء في بيوتهم بكرامة، ففُتحت عليهم أبواب الجحيم.

بدأت الفظائع بقصفٍ عنيف على أطراف المدينة، في إطار استدراج مدروس، لتليها اقتحامات بالدبابات، والمصفّحات، وسيارات الدفع الرباعي المحمّلة بالأسلحة الثقيلة. في بعض الأحياء، حيث تساقطت المسيّرات فوق رؤوس بعض السكان، ضمن مخطط إبادة، وكأن الجبل صار جبهة عسكرية في معركة دولية، لا مدينة سورية تطالب بحقّها في الحياة.

لقد اقتحمت القوات الأمنية المدعومة بالميليشيات المنازل، حطّمت الأبواب، نهبت الممتلكات، وسرقت كل ما يمكن حمله: نقود، ذهب، أجهزة إلكترونية، وحتى الطعام! فلم يكتفوا بالسرقة، كما تم في عفرين من قبل، بل مارسوا السطو العنيف على المنازل الآهلة، وضربوا الأهالي أمام أطفالهم، ثم أضرموا النار في البيوت. بيوت الدروز، التي حملت في جدرانها الصور ذات الحضور الروحي وأيقونات الحكمة والصبر، صارت رمادًا في لحظات.

وقد حدث في المستشفى الوطني، اليوم، ما يندى له الجبين. إذ لم يتم إسعاف الجرحى، بل أُعدم بعضهم ميدانيًا، ضمن الحصار المفروض. أولئك الذين دخلوا المستشفى أحياء خرجوا منه جثثًا، بعدما تمّت تصفيتهم بدم بارد، في جريمة تُضاف إلى سجل جحافل الإرهابيين الهمجيين الذين استبدلوا الطب بالإعدام، والإسعاف بالقتل.

ومن المؤلم أنه حتى المضافات، التي كانت دائمًا رمزًا للمحبّة، لنشر ثقافة حب الوطن، لنشر ثقافة السلم والضيافة والتقاليد الأصيلة، لم تسلم من الانتهاك. فقد اقتُحمت بعض المضافات وقُتل من فيها، بدم بارد، وهم جلوسٌ في مجالسهم، عزّلٌ لا يحملون سلاحًا، وكأن القتلة أرادوا قتل القيم نفسها، لا الأشخاص فحسب، كما تم في حلاقة شوارب الرجال التي تنمّ عن رمزية وقدسية. لم تكن هذه جرائم ضد أفراد فقط، بل ضد ثقافة بأكملها، ضد الجبل وروحه وكرامته.

الميدان في السويداء شهد مشاهد أقرب إلى الحروب الشاملة. استخدمت فيها الراجمات، والقنّاصة، والأسلحة المضادة للدروع، وكأن المدينة تتهيّأ لحرب ضد جيش خارجي، لا لردع شباب يطالبون بأن يُنظر إليهم كمواطنين مستكملي شروط الوطنية، كما يستحقون، كما يتطلب حقهم كمكوّن أصيل ذي خصوصية، ضمن إطار الوطن. لقد كانت الرسالة واضحة: أنتم تحت الحصار، أنتم تحت سطوة الانتقام، أنتم وحدكم في مواجهة آلة الموت.

لكن الجريمة لم تقتصر على القتل فقط. فقد تزامنت مع حملة اعتقالات تعسفية واسعة، جرى خلالها اقتياد شبّان من الشوارع دون أوامر قضائية، ويتعرضون للتعذيب في مقرات أجهزة النظام الجديد. كما تمّ اعتقال نساء في محيط المدينة، بهدف الضغط على النشطاء أو إذلال المجتمع بأكمله، كما قال ذلك ناشطون ميدانيون.

إنه لمن المعيب أن يُنظر إلى الدروز اليوم كأقلية يجب تحييدها، كخطوة ثانية أو ثالثة للتوجه إلى غيرهم، وتشويه صورتهم وتخوينهم، بعد استنفاد خياراتهم، وقهرهم، بينما هم يُذبحون بصمت. الجبل ليس ساحة رمادية، بل هو اليوم في قلب المعركة من أجل الكرامة، يقف في مواجهة سلطة لا ترى في الإنسان إلا مشروع جثّة، ولا في البيت إلا هدفًا تكتيكيًا، ولا في الصوت الحر إلا خطرًا يجب إسكاتُه.

السويداء اليوم مدينة منكوبة، ليس فقط بالدمار المادي، بل بنيران الخذلان. خذلان الداخل، الذي صمت عن الجريمة، وخذلان الخارج، الذي اكتفى بالشجب، وكأن دم الدروز أقلّ وزنًا من دم غيرهم. لكن التاريخ لا يرحم، والجرائم لا تسقط بالتقادم. وكل بيت أُحرق، وكل طفل فقد أهله، وكل شاب أُعدم ميدانيًا، هو شاهد حي على همجية نظام لا يعرف غير القمع والنهب.

ليست هذه حربًا على الإرهاب، كما يدّعي القتلة. إنها حرب على الكرامة. حرب على صوت يرفض الخضوع. حرب على أهل الجبل الذين اختاروا أن يكونوا أحرارًا، فدفعوا الثمن دمًا، وحريقًا، وخرابًا.

ولم يقتصر العقاب على القصف والقتل والنهب فقط، بل فُرض على السويداء حصار خانق، فغابت الأدوية، وتوقفت المستلزمات الطبية عن الوصول إلى المشافي، وتُرك الجرحى في الشوارع والبيوت المهدّمة للموت البطيء. فلم يكن الأمر إهمالًا، بل جزءًا ممنهجًا من عملية الإبادة الصامتة.

والأسوأ من ذلك، أن النظام وأذرعته الإعلامية والأمنية عملوا على نشر ثقافة الكراهية بوتائر أعلى من أي وقت مضى، تستهدف المسيحيين والعلويين والدروز والكرد، كلٌّ تحت يافطة تكفيرية مختلفة. فالمسيحي يُخوَّن، والعلوي يُستخدم ثم يُستنزف، والدروز يُقدَّمون كعملاء، أما الكرد، فذنبهم أنهم قاوموا الفصائل الغازية، وأنهم لم يخضعوا، وأنهم دافعوا عن أرضهم ووجودهم وهويتهم، فصارت مقاومتهم تُصوَّر ككفر وعمالة وانفصال، بالرغم من أنها كانت دفاعًا بحتًا عن الوجود.

كل هذا يحدث تحت سمع العالم وبصره، في ظل صمت دولي مريب، وتواطؤ واضح، فيما ينهار ما تبقّى من النسيج السوري، وتغدو الكراهية هي الدين الجديد الذي يُراد فرضه على جميع الذين لا يرضخون، ولا يحابون، محتمين بكراماتهم.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.