في هذا الشرق الأوسط المعلّق بين قديسين يرفعون رايات النقاء الثوري وشياطين يحرصون على تغذية النزاعات، يولد كل جيل على وعدٍ بتحرير مؤجل وصراعٍ مع دولة إسرائيل يواصل استنزاف المجتمعات دون أفق واضح للنهاية. منذ أكثر من سبعة عقود، ترسّخت سردية الصراع العربي مع إسرائيل بوصفها ذروة المظلومية التاريخية وذريعة متجددة لتبرير إخفاقات داخلية متعددة، حتى تحولت تدريجيًا إلى أداة سياسية يستخدمها كل نظام يحتاج إلى صرف انتباه شعبه عن أولوياته الحقيقية.
إن حالة عدم الاستقرار المزمنة التي تميّز المنطقة ليست حصيلة إخفاق التسويات مع إسرائيل وحدها، ولا نتاج تعنّت الأطراف المباشرة فحسب، بل هي أيضًا نتيجة تواطؤ مستمر بين أطراف إقليمية تعتبر هذا الصراع وسيلة نافعة لإدامة نفوذها وتعزيز شرعيتها. لقد أصبحت قضية النزاع مع إسرائيل مادة جاهزة لتبادل رسائل الضغط، وذريعة لتأجيج المشاعر القومية، ومساحة لتصفية الحسابات بالوكالة، حتى غدا الشرق الأوسط ساحة مفتوحة أمام جميع أشكال التوظيف السياسي.
ومن اللافت أن معظم الأنظمة التي تتبنى خطابًا عالي النبرة تجاه إسرائيل لا تشترك معها في حدود جغرافية، ولا تخوض مواجهات عسكرية مباشرة، ومع ذلك، لا تتردد هذه الأنظمة في إظهار مواقف تصعيدية متكررة وتحميل شعوبها كلفة اقتصادية واجتماعية ومعنوية لصراعٍ لم تقدّم له سوى التصريحات والشعارات. ويكاد يكون القاسم المشترك بين هذه الأطراف هو ميلها إلى استخدام القضية الفلسطينية وصراع العرب مع إسرائيل شعارًا ثابتًا تلوّح به كلما لاح خطر المساءلة الداخلية أو تصاعدت مطالب التغيير.
إن هذا النمط من الانخراط السياسي القائم على التلويح بالصراع مع دولة إسرائيل دون تحمّل مسؤولية نتائجه يُظهر مستوى من الانتهازية يصعب إنكاره، فحين تقترب فرص الحل الواقعي، غالبًا ما تتحرّك حملات المزايدة لإفشالها، خشية أن يؤدي إنهاء النزاع مع إسرائيل إلى زوال الخطاب الذي يبرّر استمرار النظم القائمة. ولو تحقق اتفاق نهائي ينهي حالة العداء المفتوح، لوجدت هذه الحكومات نفسها أمام شعوبها مطالبة بتقديم إجابات حقيقية عن أسباب الفشل التنموي والجمود السياسي والفساد الإداري.
منذ عقود، يتكرّر نمط الخطاب ذاته، بيانات تحريضية ضد إسرائيل، وتصريحات متشددة، وإدانة لا تتغير، في حين لم يحقق هذا النهج نتائج ملموسة للشعب الفلسطيني أو للمنطقة. وفي كل مرة تتجدد موجات العنف أو التوتر مع إسرائيل، يجد الرأي العام نفسه أمام تفسيرات مستهلكة تؤكد المؤامرة وتعد بالنصر المؤجل، بينما تستمر معاناة المدنيين وتتراجع فرص التنمية المستدامة.
لقد أصبح قدر شعوب الشرق الأوسط أن تتحمّل تبعات حسابات إقليمية معقّدة لا تستهدف بالضرورة إنهاء النزاع مع إسرائيل، بل الحفاظ عليه عند مستوى يمكن التحكم فيه وتوظيفه سياسيًا. بعض القوى الإقليمية تعتاش على حالة العداء المعلنة تجاه إسرائيل وتعتبرها مبررًا دائمًا لتبرير تأخر الإصلاحات وإدامة التعبئة العاطفية وإسكات الأصوات المطالبة بالتغيير. في هذا السياق، لم يعد مستغربًا أن تتحول القضية الفلسطينية وصراع العرب مع إسرائيل، رغم عدالتها التاريخية، إلى عنوان فضفاض يُستخدم لتبرير عسكرة الحياة العامة والتضييق على المجتمعات.
إن التوصيف الدقيق لهذا المسار يكشف عن استراتيجية تقوم على إدامة حالة الصراع مع إسرائيل لا باعتبارها ضرورة استراتيجية محضة، بل باعتبارها وسيلة لتعزيز الشرعية والحفاظ على بنية السلطة، وقد التقت هذه الاعتبارات مع مصالح إقليمية أخرى، لتشكّل جدارًا نفسيًا وثقافيًا يقيّد وعي المجتمعات العربية ويجعلها حبيسة حالة العداء المفتوح. في ظل هذا الواقع، تغيب الإرادة الصادقة للسلام مثلما تغيب الشجاعة الحقيقية لخوض مواجهة مسؤولة.
بعد عقود طويلة من التلاعب بهذا الملف، حان الوقت لأن تُسمّى الحقائق بأسمائها بوضوح. لقد تحوّل الصراع مع إسرائيل إلى ذريعة مكرسة تُستخدم لتسويغ استمرار أنظمة لم تحقق لشعوبها سوى الإخفاقات. وهو لم يعد صراعًا مشروعًا بمجرد تكرار خطابه دون التزام حقيقي بخوض معركة أو تحقيق تسوية. بل أصبح خيارًا سياسيًا محسوبًا يُدار عن بُعد بما ينسجم مع اعتبارات البقاء في السلطة وتثبيت منظومات النفوذ.
إن الأجيال الجديدة في العالم العربي بدأت تطرح أسئلة واضحة: كم مرة ستُستخدم معاناتنا في سبيل إدامة خطاب المواجهة مع إسرائيل؟ كم مرة سيُراد لنا أن نصدّق أن النزاع قدرٌ لا بد منه، رغم أنه في حقيقته نتيجة قرار سياسي؟ وكم مرة سنُرغم على المشاركة في تعبئة عاطفية لا تنتهي، بينما تتراجع مقومات العيش الكريم؟
إن الشرق الأوسط لا يفتقر إلى قضايا عادلة تستحق التضامن، لكنه يفتقر إلى أنظمة صادقة تمتلك الشجاعة للاعتراف بأن المتاجرة بالصراع مع إسرائيل لم تعد تجدي. وإن اللحظة التي يتوقف فيها الاستثمار في العداء تجاه إسرائيل ستكون لحظة كشف الحقيقة كاملة ومساءلة جميع الأطراف عن دورها في إدامة النزاع بدلًا من السعي لإنهائه. تلك اللحظة ستأتي حتمًا، مهما طالت مدة استثمار هذا الصراع في حسابات السياسة الداخلية والخارجية.
والخلاصة أن ما يجري هنا لم يكن حتميًا ولا قدرًا محتومًا، إنه خيار سياسي مقصود صنعته أطراف متعددة جمعتها مصالح النفوذ والصراع المؤجل مع إسرائيل. وسيكتشف الناس في النهاية أن هذه الفصول التي استمرت عقودًا لم تكن سوى حكاية صراعٍ معطّل استخدم لتقويض الاستقرار وإبقاء المجتمعات العربية رهينة خطاب العداء والإنهاك المستمر