: آخر تحديث

وسط الزحام .. أو وحيداً!

2
2
2

قال لي:  
لماذا تكون الوحدة مخيفة للبعض؟

قلت له:
من يخاف الوحدة، يخاف مواجهة النفس، لأنه لا يريد التعرف على نفسه التي يجهلها، وربما لو تعرف عليها لأصيب بالهلع.

من يعرف نفسه ويتصالح معها ، لا يخاف أن يعيش وحيداً، وكذلك لا يخشى أن يمتشق ثقته في نفسه ويعبر زحام الناس كفارس ينادي على المبارزة وسط حشود تخشى مواجهته.

قال، مذعورًا:
كيف؟

قلت، ساخرًا وضاحكًا:
تخيل لو اختلى كائن بشري بنفسه وتعرف عليها لأول مرة، ثم وجد أنه هو… جدته التي ماتت قبل سبعين سنة؟!

ثم انفجرت ضاحكًا… حتى تطاير الماء الذي كنت أسكبه في فمي وغشى وجهه المغطى بملامح ألم ودهشة وجهل.

قال، وهو يرتعش كمن داهمته حمى فيروسية مفاجئة:
أمجنون أنت؟

ثم بدأت أسنانه تعزف صوتًا مرتعشًا من هول الصدمة:
أنا… أخاف أن أكون وحيدًا، ولا أستطيع العيش إلا بين الناس.

هل ذلك يعني أنني أخاف مواجهة نفسي والتعرف عليها؟

ثم قال:
لكن العيش في واقع بدون ناس لا قيمة له.

قهقهت مرة أخرى… ثم هدأت من روعه وقلت:
الناس: روح الحياة،
ولكن… ما نوع الناس؟
وما مستوى وعيهم للحياة؟
وما مدى احترامهم لأنفسهم… ولحياتهم؟

وعليك أن تعرف أن كل شيء جيد في هذه الحياة يُقاس – كما يقولون بالإنجليزية – بـ quality وليس بـ quantity،
وتركته يترجم المعاني الإنجليزية كي يفهمها بدقة…

واستمررت في الحديث:
الناس ليسوا كل من قال “أنا إنسان”، وإنما من أثبت أنه إنسان.

وكيف تثبت أنك إنسان؟
حين تعي حقيقة نفسك، وتخرج من عباءة نفس غيرك.

صرخ:
ماذا تقصد بعباءة نفس غيري؟!

وضعت يدي على كتفه، وقلت له:
أن تفكر بعقل غيرك…
أن تسير في الطريق وعيناك مغمضتان وراء أعمى يقودك.

صرخ مرة أخرى:
أعمى؟ أمجنون أنت؟ وهل هناك أعمى يقود مبصرًا؟!

ضحكت، وشعرت بضياع عقله، وقلت له:
لعِلمك، الأعمى ليس بالضرورة أعمى بصر…
وإنما الأخطر أن يكون أعمى بصيرة.
فما بالك بأعمى بصيرة… في عصر الذكاء الاصطناعي؟!

ولكن لا تنس أن الشاعر العربي القديم، العبقري بشار بن برد، قال قبل قرون:
أَعمى يَقودُ بَصيرًا لا أَبا لَكُمُ
قَد ضَلَّ مَن كانَتِ العُميانُ تَهديهِ.

ارتعش مرة أخرى وقال:
ومن يكون أعمى البصيرة في عصرنا الحاضر؟!

قلت له:
جميل سؤالك…
فكل من يعيش في عصر الذكاء الاصطناعي بجسده،

ويعيش بعقله وفكره وخرافته في عصر الخازوق العثماني… أو ما قبل ذلك،
فهو أعمى بصرًا وبصيرة.

لأن التكنولوجيا الحديثة وفّرت لبصره ما يؤكد تخلفه،
ولبصيرته ما يدفعه أن ينهض ويرى الحقيقة عارية، كشجرة تعرت عن أوراقها في عز الخريف أمام هبوب ريح عاتية.

قال ساخرًا:
وما دخل الخازوق العثماني في حوارنا هذا؟!

قلت له:
كان الخازوق رمز فترةٍ توقف فيها العقل العربي عن التفكير…
والأخطر أن يعود، متمترسًا خلف التكنولوجيا الحديثة،

ويجد له بيئة تُصوّره كنجم قادم ليضيء السماء المعتمة!
العقول الحية… لا تعيد تكرار الخطأ! 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.