محمد بن صقر
عندما أريد أن أحدد مهام ودور المثقف العربي فالقائمة تطول بمهام جوهرية وأساسية. فكثيراً ما اضطلع المثقف العربي بدور في تشكيل الوعي بجميع مشاربه ومساراته الاقتصادية والسياسة والاجتماعية، وإن كان الوعي الذي يمارسه يتجه نحو تفكيك عديد من البنى الاجتماعية والسياسية والفكرية بنوع من الانتقاد والهرب من تحمل المسؤولية. ولعلي أحاول أن أسلط الضوء على بعض الآراء والاتجاهات لبعض من المثقفين العرب الذين أخذوا على عاتقهم هذا العبء. فعالم الاجتماع علي الوردي كان ينظر إلى أن «السياسة لا تدخل في شيء إلى أفسدته» وقس على ذلك بحسب طرحه كل المجالات. وكذلك شيخ النهضة محمد عبده الذي تعوذ من لفظ السياسة، ومحمد عابد الجابري الذي عمل على تفكيك بنية العقل العربي من خلال كتبة التي تناولت العقل العربي. بوصلة هذا الدور اتجهت بشكل مكثف نحو تحليل مواطن الخلل، وتعرية مظاهر القصور، والتعامل مع الأفراد ككيانات والدعوة إلى تجاوز المؤسسات الرسمية القائمة، وكأن مهمة المثقف الأساسية تكمن في إثبات معضلة مزمنة مفادها أن العقل العربي لا يزال يعاني عجزاً بنيوياً في إنتاج المعرفة أو تصديرها، وكأنه قدر محتوم عليه البقاء أسيراً في غيابات التخلف. وأن التخلف جزء من معالم بيئة المفكر والمثقف العربي التي ينشأ فيها. يثير هذا التوجه المركز عدة تساؤلات محيرة تستدعي طرحها تتمثل في: هل اقتصر دور المثقف العربي- بالفعل- على هذا المسار من التفكيك والتشاؤم، وهل يمكن اعتبار هذه الصورة في محاربة التخلف للعقل العربي، دقيقة وشاملة؟ ألا يوجد في المشهد الفكري العربي المعاصر ما يستدعي التنويه بإمكانات الإنتاج المعرفي والتطور المؤسسي والتصدير المعرفي والفكري والتأثير العالمي؟ والأهم من ذلك، أليس من الضروري اليوم أن تتجه رماح المثقف الفكرية وسيوفه المعرفية والإبداعية خارج الحدود العربية نحو آفاق أخرى، نحو البناء والإسهام الإيجابي في المسرح العالمي وصناعة مستقبل مختلف؟ إن الإسهاب المفرط في تفكيك الحالة الراهنة، وإن كان ضرورياً في مراحل معينة لتحديد المشكلات وتشخيص العلل، قد يتحول بمرور الوقت إلى حالة من الشلل الفكري والعجز عن تصور بدائل واقعية، وهذه هي الحالة المزمنة للمثقف العربي الذي لا يستطيع الخروج منها. فالدعوة المستمرة إلى الهرب من نظام المؤسسات الرسمية، من دون اقتراح آليات واضحة للإصلاح، أو بناء بدائل فاعلة، قد تفضي إلى فراغ مؤسسي وتهميش لدور النخب الفكرية في صناعة القرار والتأثير في مسار التنمية. الوقت الراهن هو أفضل وقت ليجد المثقف العربي بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية تدعمه لتقديم مشاريع فكرية وليعكس الممارسات الناجحة عالمياً. فالممارسات العالمية والنظريات السياسية والاجتماعية لم تكن يوماً علاجاً لكل حالات العالم، ولم تكن مستمرة، بل أصيبت بكثير من الإخفاقات، ولكن لا تزال تحاول تعميمها على العالم. وهذا ما يدفعنا إلى النظر لفكرة القصور المزمن في إنتاج المعرفة وتصديرها. فمن المغالاة بمكان تعميم هذه الصورة على المشهد الفكري والثقافي العربي برمته. صحيح أن هناك تحديات كبيرة تواجه البحث العلمي والإنتاج المعرفي في العالم العربي وهذا طبيعي في عملية البحث، ولكن هناك أيضاً مبادرات فردية ومؤسسية جادة تسعى إلى تجاوز هذه التحديات وتحقيق إنجازات ملموسة. إغفال هذه الجهود والاكتفاء بترديد مقولة «التخلف المزمن والحتمي» من قبل المثقف نفسه يمثل إجحافاً في حق كثير من العقول العربية التي تسعى جاهدة للإسهام في المعرفة الإنسانية، ولكن نحو بوصلة في بوتقة الدولة وليس عكسها، لأنها هي المعول الذي سيرتقي بالمثقف العربي ليكون أيقونة معرفية عالمية. لا شك أن النقد البناء يظل ركناً أساساً في دور المثقف، ولكن النقد الذي لا يهدف إلا إلى الهدم والتشاؤم، قد يتحول إلى معول يعوق التقدم بدلاً من أن يكون أداة للإصلاح. الحاجة اليوم تدعو إلى تغيير في بوصلة المثقف العربي، نحو دور بناء أكثر إيجابية. دور لا يغفل عن مواطن الخلل، ولكنه في الوقت نفسه يركز على استكشاف الإمكانات، ودعم المبادرات. مهمة المثقف في المرحلة الراهنة لا تقتصر على السخط المدوي والتغني بالأشعار المحبطة، التي تستخدم اللون المعتم في كل اللوحات والرسومات، بل تمتد لتشمل اقتراح العلاجات والمساهمة في تنفيذها. تغيير بوصلة المثقف من التفكيك المطلق إلى البناء المسؤول ليس تراجعاً عن دوره النقدي، بل هو تطوير لهذا الدور، ليصبح أكثر فاعلية وتأثيراً في صناعة مستقبل مشرق للعالم العربي. المثقف لا بد أن يفتخر بكيان يحميه ويعطيه حقه، يجعله يتحدث عن تجربة يفتخر بها، وأن يتحول من «جلد الذات» المستمر إلى «الثقة بالقدرات» والسعي نحو تحقيق الطموحات وللحديث بقية.سخط المثقف وتغيير البوصلة
مواضيع ذات صلة