: آخر تحديث

الثقافة كصنعة حكومية

21
22
26

الحكومات هي الجهة الأقدر على تغيير ثقافة المجتمع. هناك بطبيعة الحال جهات أخرى قادرة على إحداث تغيير بقدر ما (من سينما هوليوود حتى متاجر علي بابا). لكن لا أحد يباري الحكومة في قدرتها على إنجاز هذه المهمة. وأذكر لهذه المناسبة رؤية المفكر الأميركي بنديكت أندرسون، التي أقامت أساساً متيناً لدراسة مفهوم الهوية الوطنية والدولة القومية. رأى أندرسون أن تكوين هوية الأمة أو الجماعة الوطنية، يبدأ باستعراض انتقائي للتجربة التاريخية، وتحديد الفقرات التي ستشكل «التاريخ الرسمي للبلد» والذي سيكون - في نهاية المطاف - المرجع الرئيسي للهوية الوطنية.

لو نظرنا إلى واقع الحياة، فسوف نرى أن غالبية الناس، يعرفون أنفسهم من خلال الأوصاف التي أخبرهم بها أشخاص آخرون. خذ مثلاً معرفتك بآبائك وأجدادك، كيف توصلت إليها... أليس بالمعلومات التي سمعتها من أبيك أو جيرانك. حسناً، ماذا لو كانت هذه المعلومات مضخمة أو مبتسرة أو نصف حقيقية، أو هي معلومات مختلطة بالأماني والعواطف، فهل ستعرف ذلك التاريخ على حقيقته؟

إذا كنت تدعي لنفسك هوية عائلية أو قبلية أو تجربة تاريخية من أي نوع، فاعلم أنها ليست سوى روايات الآخرين، التي قد تكون دقيقة محققة، وقد تكون مجرد «سوالف»، هذا ما أسماه أندرسون «جماعة متخيلة» أي هوية متخيلة. وهو وصف ينطبق على كل الجماعات والطوائف والأمم، بلا استثناء، حسب اعتقادي.

تحدث أندرسون أيضاً عن دور الطباعة، أي الكتب والصحافة المطبوعة، التي أنتجت ما يمكن وصفه بثقافة معيارية مشتركة، كما ساهمت في توحيد لغة الخطاب، أي ما يقال وما لا يقال في المجال العام. وهذا هو الأساس الأولي لما نسميه «العرف العام». لا ننسى أيضاً دور التعليم الرسمي والمنابر العامة الاجتماعية، التي ساهمت بشكل فعال في رسم صورة موحدة عن الذات الجمعية، مستندة إلى تاريخ انتقائي أو فهم محدد لما جرى في ذلك التاريخ.

لا شك إذن في قدرة الحكومة على صياغة الثقافة العامة وتوجيهها؛ لأنها تملك كل الأدوات اللازمة لهذه المهمة. وقد أشرت سابقاً إلى أن جميع الحكومات قد استثمرت هذه الإمكانية ولم تفرط فيها.

لكن السؤال الذي ربما يراود بعض الناس: إلى أي حد ينبغي للحكومة أن تستثمر هذه القدرة... هل يصح للدولة أن تتحول صانعاً لثقافة المجتمع، أم تكتفي بإرساء الأرضية اللازمة للمصلحة العامة أو النظام العام؟

توصلت في دراسات سابقة إلى أن الطبقة الوسطى في المجتمعات التقليدية، ترغب إجمالاً في تبني الحكومة دور صانع الثقافة العامة، بل وما هو أبعد من ذلك. أما في المجتمعات الصناعية، فان الطبقة الوسطى تميل بقوة إلى تقليص دور الحكومة في هذا المجال، واقتصاره على دعم الهيئات الأهلية النشطة في المجال الثقافي. يرجع هذا التمايز إلى الدور التحديثي للدولة، وفق رؤية ماكس فيبر، أبرز آباء علم الاجتماع الحديث. ففي المجتمع التقليدي تلعب الإدارة الحكومية دوراً محورياً في عقلنة العرف العام وغربلة التقاليد، وصولاً إلى جعل الحياة العامة مرنة ومستجيبة لتيارات التحديث. وهذا هو بالضبط الدور الذي تريده الطبقة الوسطى. أما في المجتمعات الصناعية، فإن مهمة التحديث منجزة فعلياً، وإن الخيارات الثقافية تصنف ضمن المجال الشخصي، حيث تتجلى الحرية الفردية في أوسع نطاقاتها، الحرية التي لا يريد الإنسان الحديث أن تتقلص أو تمسي عُرضة للاختراق، من أي طرف كان.

أميل للاعتقاد بأنه خير للدولة أن تقتصر على التخطيط لأهداف العمل الثقافي الوطني ودعمه، من دون التدخل في تفاصيله. ربما يقول بعضنا إن المجتمع لن يفعل شيئاً ما لم تبادر الحكومة إليه. وهذا أمر محتمل جداً. لكنني أظنه نتيجة لنوع من التوافق السلبي على هذه المعادلة، أي أن الحكومة تملك كل شيء فعليها أن تفعل كل شيء. ولو بدأنا في تغيير هذه المعادلة، فربما يتغير الحال، ولو بعد حين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد