ليس حق اللاجئين والنازحين أن ندعمهم ونوفر لهم احتياجاتهم الأساسية فقط، بل من حقهم علينا أيضاً أن نعترف بقدرتهم على العطاء، ونأخذ منهم ونتعلم منهم الكثير من الدروس والعبر الإنسانية.
لذلك بمناسبة اليوم العالمي للّاجئين، لن نتحدث عنهم كما اعتدنا في كل مرة؛ لن نتحدث عن حقوقهم ودور مؤسسات العمل الإنساني، أو مشاريعنا المستقبلية - على أهميتها طبعاً - بل سنسرد حكاياتهم لنتعلم نحن دروس الإصرار في الحياة، وتوفير عوامل استمرارها حتى من العدم، لنثبت أن الأشياء العادية في حياتنا اليومية، التي قد نمرّ عليها من دون اهتمام، تصبح مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم، وأن جوهر الحياة ليس فيما نملك، بل في الإرادة التي صنعت الحياة على مرّ التاريخ.
في غزة النازحة في مساحات اللجوء المستمر، نتعلم دروساً تفوق ما يمكن تقديمه في هذه المقالة، فكل لحظة أمل هي درس، وكل تعبير عن التمسك بالحق في الحياة هو درس، وكل مبادرة فردية أو جماعية هي درس. غزة المحاصرة، الممنوعة من كل شيء؛ من الغذاء والدواء ومصادر الطاقة، من البيوت ومراكز الإيواء ومرافق الدعم المجتمعي، من مكان آمن تستظل به العائلات والأطفال.. تعلّمنا كل شيء.
لطالما تحدثنا عن أهمية التعليم في تمكين اللّاجئين وتحسين جودة حياتهم وضمان مستقبل أفضل لهم ولأطفالهم، لكن مبادرات التعليم في غزة، التي تحصل من دون دعم وإمكانات، كشفت عن أساليب جديدة للتعليم غير المتعارف عليها؛ فعلى سبيل المثال «نور نصار» معلمة فلسطينية، أطلقت مبادرة «مدرسة على الطريق» تضع العلم والأمل والمستقبل في حقيبة تحتوي على أدوات تعليم متواضعة، تحملها في كل مكان تنزح إليه مع أسرتها. تجمع الأطفال على قارعة الطريق، وتحولها إلى منصة مصغرة أمامهم، حيث تحرص «نور» على ألّا تتلاشى علاقتهم بالتعليم، على الرغم من كل المخاطر التي قد تنجم عن جمع عدد من الأطفال في مكان واحد تحت احتمالات القصف والقتل.
أما المبادرة الأكثر إدهاشاً، فهي مبادرة الدعم النفسي التي نفذها مجموعة من الشباب الذين يتنقلون بين مراكز الإيواء في الخيام، ومدارس وكالة غوث اللاجئين وساحات المستشفيات، وينفّذون برامج ترفيهية للنازحين وبشكل خاص الأطفال، ومن المعروف أن من يقدِّم الدعم النفسي، أناس يأتون من خارج ساحة المأساة والصراع، وليس ممن يواجهون الويلات ليل نهار؛ فكيف لمن كانوا شهوداً على المجازر والجثث المنتشرة في الأحياء والشوارع، ومن شهدوا بأعينهم خسارة أسرهم وأحبّتهم، ما زالوا يمتلكون من القوة والقدرة ما يخففون به المعاناة النفسية عن الآخرين من حولهم.
إن دروس غزة لا تتوقف عند حدّ، ومبادرات أبنائها وبطولاتهم المجتمعية أكثر مما يمكن إحصاؤه؛ فإلى جانب التعليم والصحة النفسية، يخرج من بين مشاهد الموت والدمار طفل يبتكر ويخترع بأدوات عفوية طرائق لشحن الهواتف النقالة أو تشغيل الأجهزة المنزلية الخفيفة. ورجل يقدم حلولاً لتحلية مياه البحر. وآخر يبتكر طريقة لإعداد الخبز والطعام، وكل هذا يُصنع من العدم وتحت أوضاع شديدة الخطورة.
في يوم اللّاجئ العالمي، نتعلم الدرس ممن يأخذون الدنيا غلاباً وليس بالانتظار والتمني، ونتعلم أن اللاجئ ليس بالضرورة أن يكون ذلك الضعيف المحتاج، بل قد يكون هو الأقوى برغم الأحوال، وقد نكون نحن من نحتاج أن نلجأ إليه أحياناً.
* المديرة العامة لمؤسسة القلب الكبير