: آخر تحديث

لماذا ينتحر الجنود؟

22
21
19

إن عظمة الشخصية العسكرية تتجلى في كونها تمتاز بالقوة والشجاعة والثقة بالنفس والإيمان بقدسية القضية التي تُحارب لأجلها. هي في العادة الشخصية القوية التي ترقى إلى مستوى المثالية في الحكمة والإقدام والذود عن قضايا الوطن بالغالي والنفيس. هي الشهامة والنخوة والذكاء والتضحية، لذلك كان للجيوش في كل الأوطان مكانة خاصة من الاحترام لدى الشعوب التي تعتبر أنها تحميها وتحمي قضاياها..

الجندي هو البطل الذي يقتل العدو المتربص بأمنه واستقراره، هذا هو المتعارف تاريخياً.. لكننا اليوم نشهد ظاهرة جديدة تكررت كثيراً في الآونة الأخيرة.. انتحار الجنود؟ لماذا ينتحرون؟

تقول كتب التاريخ إن انتحار الجنود ليس ظاهرة حديثة، لكن الحديث هو الأسباب والظروف التي تدفع بالجندي للانتحار. مثلاً بعد الحرب العالمية الثانية (1945) انتحر العديد من العسكريين والقادة الألمان إثر الهزيمة التي حلت بهم، وكان منهم هتلر نفسه وغوبلز وغيرهما من القادة، وذلك تفادياً لذل العدو والانتقام المتوقع. أما في معركة (فالترات- 1916) التي وقعت خلال الحرب العالمية الأولى بين القوات الألمانية والفرنسية، وانتهت أيضاً بتحقيق الفرنسيين الفوز النهائي، شهد التاريخ العديد من حالات انتحار الجنود الألمان، تجنباً للإذلال بعد الهزيمة. وفي معركة (سويحان- 333 ق.م) والتي وقعت بين الجيش الأممي بقيادة الإسكندر الأكبر، وبعد انهيار الجيش الفارسي، انتحر العديد من جنوده.. ومما سبق نرى أن انتحار الجنود كان موجوداً في التاريخ، لكنهم الشجعان الذين يرفضون الخنوع للعدو بعد الهزيمة.. هو انتحار فيه الكثير من الكرامة التي تأبى الشخصية العسكرية تَحَمل إهانة العدو لها. لكن الظاهرة المحيرة اليوم هي انتحار جنود حققوا ما يسمى «نصراً» دمروا وقتلوا وتباهوا بإنجازاتهم، ولما عادوا ليحتفوا بانتصاراتهم تعرضوا لنوبات من الحزن والاكتئاب أدت إلى الانتحار.

وجدنا هذه الظاهرة بعد حرب العراق، وفي مذكرات الجنود الأمريكيين المنتحرين.

كشفت إحصائيات أصدرتها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) أنها سجلت 154 حالة انتحار بين القوات الأمريكية في أول 155 يوماً من عام 2012، ما دفع وزير الدفاع الأمريكي آنذاك (ليون بانيتا) إلى إصدار مذكرة وصف فيها (انتحار الجنود) بأنه واحدة من أكثر المشكلات التي تواجه الجيش الأمريكي تعقيداً. ويذكر أن هذا العدد ارتفع إلى 550 جندياً عام 2022، ونفس المشكلة تكررت بعد عودة جنود أمريكا من أفغانستان. ومن ينجون من الانتحار غالباً ما يقعون في مشكلات نفسية تدفعهم إلى إدمان المخدرات والاكتئاب.. والضياع.. السؤال هنا: لماذا الجندي المفروض أنه منتصر يقوم بالانتحار؟

وبالعودة إلى آخر الحروب (طوفان الأقصى) نجد أنه رغم التعتيم الإسرائيلي على عدد المنتحرين بصفوف الجيش كشفت صحيفة «هآرتس» أن 10 جنود على الأقل انتحروا في الساعات الأولى من الحرب. وذكرت نفس الصحيفة أن الجيش يتستر على مقتل 17 جندياً يعتقد أنهم انتحروا. لكنهم وضعوا في إطار (مصابي الحوادث). وقالت، إن هذه المعطيات تشمل أيضاً جنود الاحتياط. وقالت الصحيفة، إنه بعد أن قدمت طلباً للجيش من أجل الحصول على معطيات بموجب حرية التعبير، تبين أنه منذ عام 1973 انتحر 1227 جندياً. لكن الجيش يتكتم عن حقيقة الأرقام ويدّعي أنه لا توجد لديه معلومات كافية. إلا أن الصحيفة أكدت «أن عدد الجنود المنتحرين أكثر بكثير» كما أكد خبراء الطب العسكري النفسي أنه خلال الحرب على غزة تكشفت ظاهرة غير مسبوقة، وهي أن «الجنود والضباط ينتحرون خلال الحرب»، بينما جرت العادة أن تجري عمليات الانتحار بعد أن ينتهي القتال. حيث ترافقهم صور القتل والدمار ورائحة الجثث وتتحول إلى كوابيس مرعبة.

وفي هذا قال رئيس «مركز أبحاث الانتحار والألم النفسي» في المركز الأكاديمي (روبين) البروفيسور يوسي تيفي-بلز، إن «هذا الأمر كان مفاجئاً جداً.. وقوع حالات الانتحار خلال أول أيام القتال وليس بعد المعارك». وأشارت الصحيفة إلى أن أحد الذين انتحروا هو ضابط في الخدمة الدائمة، أطلق النار على رأسه بعد أسبوعين فقط من بدء الحرب. وهناك ضابط آخر برتبة رائد وآخر برتبة مقدم وضابط رابع هو طبيب في قوات الاحتياط انتحر في نوفمبر/ تشرين الثاني؛ لأنه لم يعد يحتمل المشاهد التي رآها وحتى رائحة الأجساد المحروقة التي ترافقه.

ورغم نفي الجيش والتهرب من الاعتراف بمعاناة الجنود فإن أهالي الضحايا أفادوا بأنهم عانوا من ضائقة نفسية؛ بسبب الفظائع التي واجهوها. أما الجيش المُصّر على عدم الإعلان عن عدد الجنود المنتحرين فيُعلل ذلك بأنه يُؤثر في معنويات الجيش ويستمر في التعتيم. وآخر القصص التي انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي، هي انتحار الجندي الإسرائيلي (إليران مزراحي)، الذي خدم مدة 78 يوماً في حرب غزة، ووثق بالصور ما يعتبره انتصاراته، وهو ينتهك بيوت النازحين الأبرياء، ويعبث بها ويضحك سعيداً في «بوستات» بطولاته، وعندما استدعي للعودة إلى الخدمة، فضل الانتحار على الانتصار الوهمي الذي هزمه نفسياً، فاختار الموت لأنه خائف، وهنا يبرز السؤال.. لماذا؟ وقد أعلن أنه خرج من المعركة منتصراً؟ لماذا هو خائف؟

الجواب.. لأنه في قرارة نفسه يعلم أنه انتصارٌ زائف.. انتصارٌ زائل.

 

* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد