مع حصول العالم الدكتور عمر ياغي على جائزة نوبل تعيد البشرية تعريف علاقتها بالماء والهواء والبيئة. اهتمام عالمي كبير حصل عليه هذا الحدث، فماذا فعل ياغي ليحصد الجوائز والتقدير والاهتمام ونوبل؟ باختصار كان ياغي الرجل الذي حصد الماء من الهواء، وقدم أملًا جديدًا لإنقاذ الحياة.
تبدأ القصة من فكرة بسيطة في ظاهرها لكنها مدهشة في عمقها، هل يمكن بناء مادة تشبه الإسفنج لكنها ليست عضوية، بل مصنوعة من معادن وجزيئات كيميائية صغيرة قادرة على امتصاص الغازات أو الماء من الهواء الجاف ثم تحريرها عند الحاجة؟ من هذا السؤال ولدت (الهياكل المعدنية العضوية) التي تعرف علميا باسمMOFs وهي مواد هندسية دقيقة جدا، تبنى على مستوى الذرات بحيث تترك في داخلها فراغات تشبه شبكة ثلاثية الأبعاد، هذه الفراغات يمكنها احتواء كميات ضخمة من الغازات، تفوق مئات المرات حجم المادة نفسها لذلك تعد من أوسع المواد مسامية في العالم.
بعبارة أخرى استطاع ياغي أن يصنع مادة صغيرة الحجم لكنها تمتلك (مساحة داخلية) تفوق ملعب كرة قدم، مما يجعلها قادرة على التقاط جزيئات من ثاني أكسيد الكربون أو بخار الماء أو حتى الهيدروجين.
عبقرية ياغي لا تظهر في التركيب الكيميائي وحده، بل في الفلسفة التي تقف وراءه. لقد بنى علما جديدا سماه (الكيمياء الشبكية) وهو علم لا يكتفي بمزج العناصر كما اعتاد الكيميائيون، بل يربطها في شبكة هندسية محكمة، يمكن تصميمها حسب الحاجة: شبكة لالتقاط الكربون، أو لتخزين الطاقة، أو لتنقية الهواء. هذه الفكرة قلبت مفاهيم الكيمياء الحديثة، لأن المواد لم تعد تكتشف مصادفة، بل تصمم بوعي مسبق كما يصمم المعماري مبناه. يمكننا القول إنها نقلة تشبه الانتقال من الصنعة اليدوية إلى الهندسة الذرية.
وقد كان مشروعه «حصاد الماء من الهواء» أحد أهم تطبيقات هذه التقنية وأكثرها إنسانية. تخيل جهازاً صغيراً يوضع في الصحراء، يلتقط الرطوبة الخفيفة في الليل ويحولها إلى ماء صالح للشرب عند الصباح، بلا كهرباء ولا أنابيب، فقط تفاعل ذكي بين المادة والبيئة. لم يعد هذا خيالاً علمياً، بل واقع تجريبي تحقق بفضل مواد ياغي المسامية التي تمتص بخار الماء في درجات حرارة منخفضة وتطلقه عند ارتفاعها.
كما إن فكرة الهياكل المعدنية العضوية فتحت آفاقاً جديدة في مجالات كثيرة من تخزين الطاقة وتنقية الهواء إلى التقليل من انبعاثات الكربون إذ يمكن برمجة هذه الهياكل بطريقة تجعلها تمتص أنواعاً محددة من الغازات وتحتفظ بها، مما يساعد في تنظيف الجو من ثاني أكسيد الكربون المسبب للاحتباس الحراري. ولهذا السبب اعتبرته لجنة نوبل واحداً من العلماء الذين صنعوا فرقاً في مستقبل كوكب الأرض.
الفوائد الاقتصادية المتوقعة يمكن تلخيصها في أربع حزم رئيسية هي الحصول على تحلية لا مركزية بلا بنية تحتية مائية معقدة، وتأمين أمن مائي للقطاعات عالية القيمة، وخفض كلف الامتثال البيئي عبر التقاط ثاني أكسيد الكربون والسموم الدقيقة بما يحمي سلاسل الإمداد للأغذية والأدوية وغيرها وأخيرا أسواق هيدروجين وأنظمة غاز أكثر أمان وكفاءة.
الحقيقة أن فوز ياغي بالجائزة هو أعظم إهداء للإنسانية، فالتاريخ سيظل يذكر الدكتور عمر ياغي الذي أثبت أن الهواء ليس فارغا بل حياة غير مرئية تنتظر من يكتشفها.