: آخر تحديث

لَا أَحسَبُ الشَّرَّ جَاراً!

3
4
3

هَذانِ بَيْتَانِ جَمِيلَانِ، فِيهِمَا بَيَانُ إمْضَاءِ سُلطَانِ العَقلِ، وَالاقْتِيَادِ بِمُقْتَضَى الحِكْمَة، فِي اتِّخَاذِ قَرَاراتٍ شَخْصِيَّة، فِي أَحْوَالٍ تَمُرُّ بِالنَّاسِ كَافَة، فَيَسْعُدُ مَنْ يَفعَلُ مِثلَ الشَّاعِر، وَيَشْقَى مَنْ يَخْتَارُ خياراً مُناقِضاً لِلْأوَّل.

لَا أَحْـسَـبُ الشَّرَّ جَاراً لَا يُفَارِقُني

وَلَا أَحُزُّ عَـلَى مَا فَاتَنِي الْوَدَجَا

وَمَا نَزَلْتُ مِنَ الْمَكْـرُوْهِ مَنْـزِلَةً

إِلَّا وَثِقْتُ بِأَنْ أَلْقَى لَهَا فَرَجَا

يُحدّثُنَا الشَّاعِرُ عَنْ سِيَاسَتِهِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الأَحْدَاثِ، فَعِنْدَمَا يَمُرُّ بِه الشَّرُّ، يَعْتَبِرُهُ مُرُوراً عَابِراً، لَا طَوِيلَ إِقَامَة.

وَاسْتَخْدَمَ الشَّاعِرُ فِي تَقْيِيمِهِ الشَّرَّ، مِثَالَ: الجَار المُقِيم، إذْ أنَّهُ لَا يَحْسَبُه جَاراً غَيرَ مُفَارِق.

وَوَصْفُهُ الجَارَ بِالمُقِيم، لِلتَّفْرِيقِ بَينَهُ وَبَيْنَ الجَارِ المُتَحَوِّل، فَالجِيرَةُ تَكُونُ عَارِضَةً وَدَائِمَة.

ويَنتَقِلُ الشَّاعِرُ فِي عَجْزِ البَيْتِ لِلْحَدِيثِ عَنْ فَوَائِتِ الأَشْيَاءِ، إذْ لَا يَجْعَلُ حُزْنَهُ عَلَى مَا مَضَى يُودِي بِهِ إلَى حَتْفِهِ، مُعَبِّراً عَنْ هَذَا الحَتْفَ بـِحَـزِّ الوَدَج. وَالحَزُّ: هُوَ القَطْعُ. وَالوَدَجُ: عِرْقٌ فِي الرَّقَبَةِ، يُعِيدُ الدَّمَ من الرَّأسِ إلَى القَلْبِ، يَنْتَفِخُ عِنْدَ الغَضَب، وَيُقَالُ فِي المَثَلِ: «انْتَفَخَتْ أَوْدَاجُه»، إذَا غَضِبَ، وَالوَدَجُ عِرْقُ الحَيَاة، لَا بُدَّ مِنْ قَطْعِهِ لِلذَّبْح.

وَقَصَدَ الشَّاعِرُ أنْ يَقُولَ: أنَا لَا أَحْزَنُ عَلَى مَا يَفُوتُ وَيَمْضِي، إلَى حَدِّ قَتْلِ النَّفْسِ بحَزِّ عُنُقِي، وَالحَدِيثُ عَنْ قَتْلِهِ نَفْسَه، تَعْبِيرٌ عَنْ الحُزْنِ العَظِيم.

وَفِي البَيْتِ الثَّانِي، يَقُولُ:

وَمَا نَزَلْتُ مِنَ الْمَكْـرُوْهِ مَنْـزِلَةً

ِلَّا وَثِقْتُ بِأَنْ أَلْقَى لَهَا فَرَجَا

يُشَبِّهُ الشَّاعِرُ مُوَاجَهَةَ المَكْرُوهِ بِالرّحْلَةِ الّتِي يَنْزِلُ المُسَافِرُ خِلَالَهَا بِمَنَازِلَ لِلرَّاحَةِ ثُمَّ يَعُودُ لِمُوَاصَلَةِ سَيْرِه.

وَقَوْلُهُ: «وَمَا نَزَلْتُ مِنَ الْمَكْرُوْهِ مَنْزِلَةً»، أرَادَ بِهِ: مَا أَصَابَنِي مَكْرُوهٌ فِِي حَوَادِثِ الأَيَّام.

وَقَوْلُهُ: «إِلَّا وَثِـقْـتُ بِأَنْ أَلْقَى لَهَا فَـرَجَا»، يُرِيدُ بِهِ: إلَّا أيقَنتُ أَنَّ بعدَ العُسرِ يُسراً، وبعدَ الضِّيقِ سَعَةً.

وَالبَيْتَانِ لِلشَّاعِرِ عَبدِ اللهِ بْنِ الزَّبِيْرِ الأَسَدِيِّ، مِنْ أَسَدِ بنِ خُزَيمَةَ. «وَالزَّبِيرُ بِفَتْحِ الزَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا، وَكَسْرِ البَاءِ بَعْدَها».

وَعَادَةً مَا يَخْتَلِطُ اسْمُ هَذَا الشَّاعِرِ مَعَ اسْمِ الصَّحَابِي، عًبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَير «بِضَمِّ الزَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا، وَفَتْحِ البَاء» بنِ العَوَّامِ الأسدِيّ، مِنْ أَسدِ قُرَيش، وَالِدُهُ: الزُّبَير، أَحَدُ العَشْرَةِ المُبَشَّرِينَ بِالجَنَّةِ، وَوَالِدَتُهُ: أسْمَاءُ بِنْتُ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق، ذاتُ النِّطَاقَين.

وابنُ الزَّبِير الشَّاعِرُ، مِنْ شُعرَاءِ الكُوفَةِ الشَّهِيرينَ بِالهِجَاءِ فِي العَصْرِ الأُمَوِيّ، كَانَ مَرْهُوبَ اللّسَان، كَثِيرَ الهِجَاء، سَرِيعَ الغَضَبِ، كَثِيرَ التَّقَلُّبِ، مَدَحَ وَهَجَا أَعْيَانَ الكُوفَةِ وَوُلَاتَهَا، الأُمَوِيّينَ وَالزُّبَيْرِيّينَ، وَنَالَ مِنْهُمُ الرِّضَا وَالمَالَ وَالعَطَاء، ولَقِيَ مِنْهُمُ الصَّدَّ وَالجَفَاءَ وَالجَلْدَ وَالحَبْس، وَفْقًا لجَامِعِ شِعْرِه: الدُّكتُور يَحيَى الجبورِي.

وَفِي مَعْنىً مُقارِبٍ، يقولُ النَّابِغَةُ الذُّبْيَانِي:

وَلَا يَحْسَبُونَ الخَيْرَ لَا شَرَّ بَعْدَهُ

وَلَا يَحْسَبُونَ الشَّرَّ ضَرْبَةَ لَازِبِ

واللَّازِبُ: اللَّاصِقُ. ومِنَ المَجَاز: صَارَ الأَمْر ضَرْبَةَ لازِبٍ، أَي: لازِماً، شَدِيداً، ثابِتاً، وَالعَرَبُ تقولُ: لَيْسَ هَذَا بضَرْبَةِ لَازِبٍ، وَلَازِمٍ، يُبْدِلُونَ البَاءَ مِيماً لِتَقَارُبِ المَخَارِجِ. قَالَ أَبُو بَكْر: مَعْنَى قَوْلِهِم: مَا هَذَا بضَرْبةِ لَازِبٍ، أَي: مَا هَذَا بِواجبٍ لَازم، أَي: مَا هَذا بضَرْبَةِ سَيْفٍ لازِب، وَهُوَ مَثَلٌ. وَصَارَ الشَّيْءُ ضَرْبَةَ لازِبٍ، أَي: لازِماً. (تاج العروس من جواهر القاموس)، للزبيدي.

وَعَنِ الضَّرْبَةِ الآنفة، يَقُولُ كُثَيِّرُ عَزَّةَ:

فَـمَـا وَرِقُ الـدُّنْيَا بِـبَـاقٍ لِأَهْـلِـهِ

وَمَـا شِـدَّةُ البَـلْـوَى بِضَـرْبَـةِ لَازِمِ

فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ شِدَّةٍ إِنَّ بَعْدَهَا

فَوَارِجَ تَلْوِي بِالْخُطُوبِ الْعَظَائِمِ

وَأَعَجَبَنِي اعْتِبَارُ الشَّاعِرِ حُضُورَ الفَرَجِ، يَلْوِي أَعْنَاقَ عَظَائِمِ الشَّدَائِد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد