: آخر تحديث

المسيحية الصهيونية... من الهرطقة إلى تبرير الإبادة

4
4
3

تبدو مقولة «المسيحية الصهيونية» وكأنها مفارقة ثيولوجية غريبة. فاللاهوت المسيحي، كما أسّس له بولس في القرن الأول الميلادي، قام على الانتقال بالمسيحية من حركة إصلاحية يهودية إلى ديانة كونية، وذلك من خلال فتحها لغير اليهود (الجنتيليين)، وتركيزه على صلب اليسوع وقيامته بوصفهما طريقا للخلاص ــ وهو ما نفاه القرآن الكريم بعد ذلك — وعلى مفاهيم النعمة والإيمان والعهد الجديد. وقد شكّل هذا التحول قطيعةً جذرية وتجاوزاً حاسماً لليهودية.

في المقابل، ظلّ التيار الربّاني اليهودي، الذي تبلور بعد وفاة يسوع، متمسّكاً برفض مسيحانية هذا الأخير، ورافضاً فكرة «العهد الجديد»، ومؤكداً سموّ قانون التوراة على الإيمان، ومناهضاً بذلك محاولة التوفيق التي قام بها بولس وغيره بين الشريعة والإيمان.

من هذا المنظور، فإن المسيحية في جوهرها تمثل نقضاً وتجاوزاً وقطيعةً تفسيرية ولاهوتية مع اليهودية التلمودية ومع أي توظيف لاحق للنصوص العبرانية في مشاريع آيديولوجية حديثة، وعلى رأسها الصهيونية. وعليه، فإن أي حديث عن «مسيحية صهيونية» لا ينطوي على تناقض فلسفي وثيولوجي عميق فقط، بل يكشف كذلك عن مفارقة تاريخية صارخة.

ولكن ما هي هذه «المسيحية الصهيونية» التي يؤمن بها الكثير، خصوصاً في أميركا؟ إنها، في جوهرها، اعتقاد لاهوتي يقوم على الإيمان بأن المجيء الثاني للمسيح سيتم على أرض إسرائيل. ومن المبادئ الأساسية للصهيونية المسيحية القول بأن قيام دولة إسرائيل الحديثة وعودة اليهود إلى ما يُسمّى «أرض الميعاد» يشكّلان تحقيقاً مباشراً لنبوءات كتابية، وأن هذا الواقع سيُمهّد المسرح اللاهوتي للعودة الثانية للسيد المسيح.

بناءً على ذلك، تصبح مساندة إسرائيل واجباً دينياً يُنظر إليه بوصفه التزاماً إلهياً. غير أن جوهر هذه المساندة لا يرتبط بإسرائيل في حد ذاتها، بقدر ما يرتبط بدورها الرمزي بوصفها شرطاً مسبقاً لعودة المسيح في تصور ألفيّ أخروي. ولهذا فإن هذا الدعم يظل ثابتاً وغير مشروط، بغضّ النظر عمّا ترتكبه إسرائيل من جرائم إبادة أو سياسات تمييز ممنهجة بحق الفلسطينيين.

ترفض الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية «الصهيونية المسيحية» من منظور لاهوتي، وإن بدرجات متفاوتة. فالكنيسة الكاثوليكية لا تُصنّفها رسمياً بوصفها هرطقة، لكنها ترفضها رفضاً صريحاً، لأنها تقوم على لاهوت «العهدين» بدل العهد الواحد المكتمل في المسيح عليه السلام، ولأنها تربط النبوءات الكتابية بكيانات سياسية حديثة. وتؤكد الكنيسة الكاثوليكية، استناداً إلى وثائقها العقائدية الأساسية، ولا سيما مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني (1962–1965)، أنه لا وجود لكيانات سياسية مقدّسة، بل إن المسيح هو كمال العهد وملؤه، والكنيسة هي جماعة العهد الجديد، لا دولة بديلة ولا كياناً جغرافياً مُقدّساً.

أما الكنائس الأرثوذكسية، فتنظر إلى الصهيونية المسيحية بوصفها في الغالب خطأً لاهوتياً جسيماً، وقد يرقى أحياناً إلى مستوى الهرطقة، لأنها (الأرثوذكسية) ترفض القراءة الحرفية للنبوءات، وترفض أي عودة إلى مفهوم «الاختيار» العرقي أو الجغرافي بعد المسيح، أي بعد تحقق رسالته ذات البعد الكوني الشامل، كما يفهمها اللاهوت المسيحي التقليدي.

وتُعدُّ الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة تياراً دينياً - سياسياً واسع الانتشار، خصوصاً داخل الأوساط الإنجيلية البروتستانتية. ويقوم هذا التيار على الاعتقاد بأن قيام دولة إسرائيل يندرج ضمن «مخطط إلهي» يقتضي تعزيز قوة إسرائيل تمهيداً لعودة المسيح. ووفق هذا المنظور الأخروي، تُهمَّش الاعتبارات الأخلاقية والسياسية؛ إذ لا يُعدّ الاستيطان، ولا نظام الأبارتهايد في الضفة الغربية، ولا الإبادة الجارية في غزة، قضايا ذات وزن أخلاقي يُذكر، لأن معاناة الفلسطينيين تُختزل بوصفها تفاصيل ثانوية أمام «المخطط الأكبر»، أي ضمان قوة إسرائيل وأمنها بوصفهما شرطاً مسبقاً لعودة المسيح.

وبالطبع، يدرك كثيرون في إسرائيل هذه الخلفيات اللاهوتية التي تتجاوز في جوهرها مجرد «أمن إسرائيل». فبحسب هذا التصور، تصبح إسرائيل ذاتها كياناً مرحلياً يفقد أهميته بعد تحقق عودة المسيح. ومع ذلك، يقوم تحالف براغماتي بين الطرفين، إذ يدعم اليمين الاستيطاني هذا التيار ويستثمره سياسياً لأنه يخدم أهدافه التوسعية والعنصرية على الأرض.

في الختام، لا تُعْتَبَر «المسيحية الصهيونية» تعبيراً عن الإيمان المسيحي بقدر ما تكشف عن انحراف أخروي خطير، تُختزل فيه الرسالة الروحية في وظيفة سياسية، ويُعاد فيه إنتاج المقدّس بوصفه أداة لتبرير القوة والعنف والقتل. فحين يُستبدل منطق الخلاص بمنطق الجغرافيا، وتُستبدل الكونية الأخلاقية بانتظار نهاية زمنية مشروطة بالقهر والتهجير، يتحوّل اللاهوت من أفق للتحرر إلى جهاز لإلغاء الإنسان.

إن أخطر ما في هذا التيار ليس تناقضه اللاهوتي فقط، بل قدرته على تعطيل الضمير الأخلاقي باسم النبوءة، وعلى شرعنة الإبادة باسم الخلاص. وعند هذه النقطة، لا يعود الصمت موقفاً محايداً، بل يصبح تواطؤاً؛ ولا يعود النقاش مجرد خلاف عقائدي، بل امتحاناً أخلاقياً للإنسانية ذاتها: إمّا إيمان يُنقذ الإنسان، أو لاهوتٌ يُبرّر التقتيل والإبادة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد