: آخر تحديث

السؤال أهم من الجواب

2
2
2

علي عبدالله الأحمد

في حصة الاجتماعيات، التاريخ والجغرافيا، في مدرسة خالد بن الوليد، كان الأستاذ داود يسأل طلاب الابتدائية ويقول: «من يعرف الإجابة يرفع إيده»، وفي ثوانٍ ترتفع أيدي التلاميذ في الصفوف الأمامية في الفصل، وتعلو أصواتهم: «أنا أستاذ... أنا أستاذ»، أما أولئك القابعون في الصفوف الخلفية فكانوا ينكمشون ويختبئون خلف الأذرع المرفوعة للشطار، وكأن الأمر لا يعنيهم. من يأتي بالإجابة هو الشاطر، هذا هو المنطق الذي تربينا عليه، فهل ما زال هذا المنطق الذي شكّل عقولنا قائماً اليوم؟ لو نظرنا اليوم إلى الذكاء الاصطناعي، فقد نرى أن ذلك المنطق القديم قد تغيّر، وربما أصبح معكوساً، لأن الإجابات والمعلومات لأي سؤال أصبحت متاحة للجميع بلا عناء. «اطلبوا وسأجيبكم»، هذا ما يقوله الذكاء الاصطناعي. وكأن الشطارة والتميز لم تعد لمن يملك الإجابة، بل لمن يعرف كيف يطرح السؤال الصحيح.هنا تكمن المفارقة الجديدة: في الماضي، كان السؤال وسيلة للوصول إلى الإجابة، أما اليوم، في عصر الذكاء الاصطناعي، أصبح السؤال في ذاته أهم من الإجابة. لأن الإجابة قد يقدمها أي برنامج أو محرك بحث أو نموذج ذكي خلال ثوانٍ، لكن صياغة السؤال تتطلب تفكيراً، وعقلاً نقدياً، وفهماً عميقاً لما نريد معرفته أو حله. السؤال الجيد ليس فقط أداة للحصول على معلومة، بل هو مفتاح لاكتشاف زوايا جديدة، وفتح مسارات لم نكن نعرف أنها موجودة. بات الأمر أشبه بلعبة الشطرنج، الحركات متاحة على الرقعة للجميع، لكن الفارق بين لاعب مبتدئ ومحترف يكمن في اختيار الحركة الصحيحة في اللحظة الصحيحة. كذلك الحال مع الذكاء الاصطناعي، فالمعلومة موجودة، لكن من يعرف كيف يسأل ويحدد ما يريد بدقة، هو الذي يحقق القيمة الحقيقية. فات الأوان للسؤال: «إلى أين سيأخذنا الذكاء الاصطناعي؟»، وربما لا يمكننا أن نتخيل إلى أي مدى سيتدخل هذا الذكاء في حياة البشر. هل سيظل الإنسان صاحب القرار؟ أم أن الذكاء الاصطناعي سيتحكم بمصير الإنسان؟يقول جيفري هينتون، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء 2024، والذي يعد أحد آباء الذكاء الاصطناعي: «العلاقات الإنسانية ستصبح غير ضرورية، تماماً كما ألغت الثورة الصناعية أهمية القوة البشرية»، محذراً من أن الذكاء الاصطناعي قد طوّر لغات داخلية يصعب على البشر فهمها، ما يجعل السيطرة عليه أكثر تعقيداً.ما الذي جعل جيفري هينتون يصل إلى هذه النتيجة؟ هل هو الإحساس بالذنب؟ ربما. ولو نظرنا إلى ألفرد نوبل نفسه، فقد اخترع الديناميت لأغراض التعدين والبناء، لكن مع مرور الوقت شعر بثقل الجانب المدمر لاختراعه. ونرى ذات الشعور عند مشاهدتنا للفيلم الشهير «أوبنهايمر»، فهذا العالم الأمريكي الملقب ب«أبو القنبلة الذرية» عاش صراعات فكرية وأخلاقية بعد أن ألقت الولايات المتحدة القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي في الحرب العالمية الثانية. ماذا لو استطاع الإنسان تطوير خوارزميات للقيم والمبادئ الإنسانية، وجعلها جزءاً من هذا الذكاء الجديد؟ هل ستختفي الغيرة، ويزول الحقد، وتنتهي الحروب والنزاعات بين البشر؟ هل ستحل قضايا البيئة ويصبح كوكب الأرض ومن عليه أكثر سعادة؟ ربما يكون ذلك حلماً جميلاً، لكن الواقع يخبرنا أن الذكاء وحده لا يكفي، وأن المعلومة بلا حكمة قد تكون سلاحاً ذا حدين. لذلك، فإن طرح الأسئلة الصحيحة، والأسئلة التي تتجاوز حدود التقنية إلى جوهر الأخلاق والإنسانية، قد يكون هو الطريق لضمان أن يبقى هذا الذكاء في خدمة البشر، لا العكس. لقد تغيّرت المعادلة تماماً. لم يعد من يكسب الجولة هو من يحفظ أكبر قدر من المعلومات، بل من يستطيع أن يحدد ما يريده بدقة، ويصوغ أسئلته بذكاء، ويميز بين المهم والهامشي، وبين العابر والجوهري. ولهذا، فإن تعليم الأجيال القادمة مهارة طرح الأسئلة قد يكون أهم من تلقينهم الإجابات.احترنا... هذا الموضوع ما له أول ولا آخر. ولعل كلَّ خمسيني يودُّ العودة إلى زمن «أنا أستاذ... أنا أستاذ». والجميل أن الأستاذ داود ما زال يرسل تنكات زيت الزيتون من نابلس في كل موسم إلى أحبائه في رأس الخيمة، وكأن شيئاً لم يتغير... إلا أن السؤال اليوم، في زمن الذكاء الاصطناعي، أصبح فعلاً أهم من الجواب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد