إيلاف من مراكش: يشتهر المطبخ المغربي بأكلات عديدة، يأتي على رأسها "الكسكس" و"الطاجين". وإذا كانت هذه الأصناف من المأكولات مشتركة في تسمياتها بين المغاربة، فإنها تختلف في بعض التفاصيل الصغيرة، في مكوناتها وطريقة إعدادها، من منطقة إلى أخرى. ومن ذلك أن "الطاجين الفاسي" ليس هو "الطاجين التطواني"، والكسكس الذي يهيأ في منطقة سوس ليس هو الذي يهيأ في منطقة الشاوية، مثلاً.
وإلى جانب هذا التنوع على مستوى "الكسكس" و"الطاجين"، مثلا، فإن هناك أطباقاً ومأكولات قد تعرف بها منطقة، من دون غيرها، ومثال ذلك أكلة "الطنجية" التي لا تذكر إلا بإضافة "المراكشية "إليها، دلالة على أننا مع طبق تختص به مدينة مراكش، من دون غيرها، حيث "تفنن المراكشيون في ابتكار أشكال كثيرة لها مما أكسبها شهرة واسعة فأصبحت تجسد أذواق وقيم المراكشيين وأريحيتهم وكرمهم"، كما كتبت الباحثة لطيفة العاصمي، في مؤلفها "الطنجية المراكشية ومحيطها من الأدبيات الشعبية".
بعضهم، يلخص الطنجية المراكشية في عبارة لذة خيالية، وآخرون في جملة أن للتراث ملذاته. والمثير في الطنجية المراكشية أنها تبدو طبقاً غريباً، ليس في مذاقه، فحسب، بل، كذلك، في تاريخه وفي طبيعة إعداده وتقديمه، فضلا عن أنها وجبة لا تطهى على نار مشتعلة ولا حتى هادئة، بل على ما بعد خمود النار، لذلك تلقب بـ"بنت الرماد".
ويبقى لـلطنجية المراكشية تاريخها، الذي ارتبط، أساساً، بما عرفت به المدينة الحمراء على مستوى امتهان جزء كبير من ساكنتها للصناعة التقليدية. وتؤكد العاصمي، في مؤلفها، أن أغلب آكلي الطنجية كانوا من الحرفيين، والصناع التقليديين، الذين "يتطلب عملهم الرزين، عدم مغادرته إلى حين الفراغ من القطعة المصنوعة"، "للذهاب بها، بعد صلاة العصر مباشرة، إلى الأسواق المعدة لذلك"، "حيث تباع هذه الأشياء بـ "الدلالة"، أي بالمزاد العلني، وبالتالي "لم يكن لديهم متسع من الوقت للعودة إلى البيت وقت الغذاء".
وتشير العاصمي إلى أن مجمع الصناعة التقليدية، الذي كان يسمى "الفندق"، كان يجمع "المعلم" وهو صاحب الدكان، ومتعلم، أو أكثر، حسب الحاجة، يكون في طور التعلم يتلقى التدريب والأوامر والأجرة من "المعلم". كما كان هناك تعايش وتعاون بين مكونات هذا المجمع، "حيث كان كل منهم يساهم بقدر من الدراهم لإعداد الطنجية، ويكلفون أحدهم يكون في الغالب متخصصا في إعدادها".
ويقوم المكلف بالعمل كاملا، وذلك "من اقتناء ما يلزم من نوع اللحم الخاص بـالطنجية وهو لحم الكتف أو الرجلة، و"المصير" وهو الحامض المرقد، والكمون البلدي والسمن المذاب، والزعفران شعرة حر، وزيت الزيتون، والثوم الأحمر، إلخ. ولكل هذه المواد دكان معلوم بجودة المواد وعدم الغش فيها. ثم يحضر الطنجية ويودعها عند المعلم بـ"الفرناتشي"، وهو الرجل الذي يتولى تسخين الحمام (وليس الفرن، كالفرق بينهما كبير). وقد كان "الفرناتشي" موجوداً بكل حومة في المدينة العتيقة. وهنا يأتي دور "المعلم" فيسأل صاحبها عن التوقيت الذي يريدها به، هل يريدها للفطور أم الغذاء أم الترديدة، وهي "أكلة بعد العصر".
وتشدد العاصمي على أن "على كل من يتولى مهمة إعداد الطنجية، أن يكون ذا تجربة ومهارة في اختيار نوع اللحم الخاص بها، ومقادير التوابل، ومقدار السمن والزيت والماء، فإعدادها فن وثقافة قبل أن تكون مجرد أكلة، كما أصبحت، اليوم، حيث أضحت تطهى بـ"الكوكوت" ( طنجرة الضغط ) على نار الغاز، ويعدها أناس من غير ذوي المعرفة".
وهكذا، فمع التحولات التي صارت تعرفها حياة اليوم، صار بعض ساكني مراكش، ممن كثرت انشغالاتهم، يتركون مهمة إعداد الطنجية للجزار الذي يتعاملون معه، حيث يقترحون عليه مسبقاً كمية اللحم المطلوبة وعدد الأشخاص الذين ستعد لهم الوجبة، والوقت الذي يرغبون به فيها ليجدوها في الوقت والموعد المحددين.
وجرت العادة في وقت سابق، كما تكتب العاصمي، أن "يسأل "الفرناتشي" صاحب "الطنجية" عن محتواها"، وإن كان لحم غنم" أو "كوارع" أو لحم "رأس" أو لحم "دواجن" أو "أرانب"، وذلك "حتى يتسنى له وضعها في المكان المناسب، ومن ذلك أن يضعها فوق الجمر المحاط بالرماد، والذي يسمى "اللوزة"، لتنضج على مهل".
وتشدد العاصمي على أن لـ"الفرناتشي دور حاسم في إنجاح هذه الأكلة أو فشلها، فهو الذي يتعهدها طيلة مدة نضجها, ويتعرف على أنها باتت جاهزة إما برائحتها أو بتحريكها".
وعلى عكس الطاجين، الذي يحيل على الأكلة والإناء الذي تطبخ فيه، في نفس الآن، لا تسمى الطنجية بهذا الإسم ، حسب العاصمي، إلا إذا كانت مملوءة، أما الإناء الذي تنضج فيه فيسمى "الشقف" أو "القلوشة".
هكذا، بدأت الطنجية المراكشية كأكلة يعدها الرجال ليأكلها الرجال، ولم تكن تهيأ خلال أوقات الدوام في معامل الصناعة التقليدية، فقط، بل إن "الصنايعية"، وعموم المراكشيين، كانوا يغتنمون راحة يوم الجمعة للخروج إلى حدائق مراكش وفضاءاتها، التي كانت تحيط بالمدينة مثل حدائق "المنارة" و"أكدال"، للنْزهة والترويح عن النفس، بعد أسبوع من العمل الشاق والمتعب، وكانت الطنجية أحسن وجبة تؤكل خلال هذه النزهات، وهو ما تؤكده العاصمي، بقولها، إن هذه الأكلة اشتهرت "لارتباطها بالفسحات الترويحية التي كان يقوم بها الرجال، أي ما كان يعرف بـ"النزاهة"، حيث كانوا ينظمون خرجات للترفيه عن أنفسهم إلى أحد الجنانات أو العراصي سواء كانت عمومية أم مملوكة للخواص".
وتشترك الطنجية مع مراكش في أن لهما نفس النكهة والطعم تقريباً، حيث تتركان لدى الزائر أو المتذوق طعماً خاصاً ومختلفاً عن كل ما شاهده أو أكله من قبل. وصار معروفاً أن كل من زار مراكش من دون أن يتذوق الطنجية فكأنه لم يزرها أو يتمتع بنكهتها. كما تتحول هذه الأكلة إلى معيار لقياس درجة الحفاوة التي يستقبل بها المراكشي ضيوفه القادمين من خارج المدينة.