: آخر تحديث

الملك «بيبي»... دخّلهم في الحيط!

6
6
5

محمد ناصر العطوان

لطالما نظرنا، وكما تعلمنا وورثنا من المسيري -رحمه الله- في منهجنا التحليلي، إلى الصهيونية ليس كحركة «تحرر قومي» كما تزعم، بل كظاهرة استعمارية استيطانية حديثة، تجسد أقصى درجات «العلمانية الشاملة» التي تختزل الإنسان والأرض في معادلات مادية قابلة للتملك والإزاحة...

واليوم، نلمس تجلياً صارخا لهذه الحقيقة في غزة، حيث تُختبر الإنسانية كل يوم، وتنفجر موجة غضب عالمي غير مسبوقة تُزلزل أركان الخطاب الصهيوني وأساطيره التأسيسية.

غزة التي تحولت إلى مسلخ الحداثة المادية الصهيونية، وأرقامها التي تشي بانهيار الأخلاق، حيث لا يمكن فهم الغضب العالمي إلا من خلال تشريح الواقع المادي الذي تفرضه آلة الحرب الصهيونية.

رقم مرعب يتجاوز 62 ألف شهيد، وفق أحدث البيانات الصادرة عن وزارة الصحة في غزة (مع التأكيد على استمرار ارتفاع الرقم بشكل يومي مروع). هذا الرقم ليس إحصاء مجرداً، بل هو شاهد حي على اختزال الإنسان الفلسطيني إلى «عائق ديموغرافي» في المعادلة الصهيونية الميكانيكية.

وطفولة مذبوحة على مذبح التوسع، بما يقارب 20 ألف طفل قضوا نحبهم تحت القصف والدمار ليكونوا ضحايا وشهداء «المنطق الأمني» الصهيوني الذي يرى في كل طفل فلسطيني تهديداً مستقبلياً، تجسيداً للرؤية العنصرية التي تحول البشر إلى أرقام في معادلة السيطرة.

شباب أُزهقت أحلامهم... عشرات الآلاف من الشباب الذين كانوا يمثلون مستقبل المجتمع، سُحقوا تحت أنقاض بيوتهم وجامعاتهم وتدمير ممنهج للبنية الديموغرافية والاجتماعية، سياسة قديمة متجددة للاستعمار الاستيطاني.

ليس ذلك فقط، بل عجائز وذوو إعاقة استهدافوا بشكل متعمد للهشاشة والضعف وآلاف المسنين وذوي الإعاقة (بالآلاف) لقوا حتفهم عطشاً أو جوعاً أو تحت الأنقاض، عاجزين عن الفرار.

هذا ليس «ضرراً جانبياً»، بل هو تعبير عن اللامبالاة الأخلاقية المطلقة التي تولدها أيديولوجيا تضع «أمن» المستوطن فوق حياة «الآخر» كلياً.

هذه الأرقام الكارثية، المصحوبة بصور الدمار الشامل وحصار الغذاء والدواء، أحدثت شرخاً عميقاً في الرواية الصهيونية السائدة لعقود حيث انهيارت سردية احتكار «معاداة السامية» وبات الغضب موجهاً بوضوح نحو المشروع الصهيوني وممارساته، وليس نحو اليهودية كدين أو جماعات يهودية عالمية...

الحمد لله لقد تم تفكيك هذه الآلية الدفاعية التي طالما استُخدمت لإسكات النقد. كذلك فضح «الديمقراطية الوحيدة» في المنطقة، والممارسات الوحشية كشفت زيف ادعاءات «القيم الديمقراطية والأخلاقية» التي تتستر بها إسرائيل، أمام عجز غربي واضح عن محاسبتها، مما أثار سخطاً حتى داخل المجتمعات الغربية.

بعيداً عن الذين هم مع «حماس» أو ضدها في ما فعلت، فقد تحولت غزة إلى رمز عالمي للمقاومة ضد الظلم والتظاهرات المليونية من طوكيو إلى نيويورك، تحركات المجتمع المدني، مواقف دول الجنوب، وحتى التمرد داخل المؤسسات الغربية - كلها دلائل على صحوة أخلاقية تعترف بإنسانانية الفلسطيني المُسْتَبَاح... قبل حماس وبعدها... في غزة وفي الضفة وفي والأحلام.

لقد ساهمت وسائل التواصل في كسر حصار الإعلام، فالعالم يرى -مباشرة- فظائع كان يتم إخفاؤها أو تبريرها، مما ولّد تعاطفاً غير مسبوق وحملاً دولياً على حكومات تتواطأ صمتاً أو دعماً... انتهت اللعبة!

ها هنا نصل إلى لب الرؤية التي تزاوج بين التحليل المادي العميق والإيمان بالسنن الإلهية في الخلق حيث يقول تعالى في محكم كتابه: «إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا» (الإسراء).

الطغيان في الأرض -ممثلاً هنا في المشروع الصهيوني بآلته العسكرية الوحشية وأيديولوجيته الاستعلائية- لا يمكن أن يكون مصيره إلا السقوط الأخلاقي أولاً، ثم السياسي والحضاري لاحقاً، مهما بدا جباراً في لحظته. هذا الغضب العالمي ليس مجرد رد فعل سياسي عابر؛ إنه ريح التغيير التي تهب عندما تتجاوز القوة المستبدة كل الحدود، إنه الصوت الإنساني الجماعي الذي يعلن «كفى!».

إنه الإعلان على أن الملك «بيبي» دخّل الصهونية في الحيط... وعن فشل ذريع للمشروع الصهيوني في كسب شرعيته الأخلاقية أو قبوله الإنساني، مهما بلغت قوته العسكرية أو دعم القوى العظمى.

هذا الغضب، تحقيق لوعد إلهي نطق به القرآن: أن الظلم لا يدوم، وأن صرخة المظلوم لا تذهب سدى، وأن سُنَّة الله في نصر المظلوم وهزيمة الظالم -مهما طال الزمن- آتية لا ريب فيها.

غزة، برغم جراحها العميقة وأعداد شهدائها المرعبة، تضع العالم أمام مرآته وتدفعه لاختيار موقف لا لبس فيه: إما مع الحياة والكرامة والعدل، أو مع آلة الموت والطغيان والنسيان. وفي هذا الاختيار تكمن بداية النهاية لأي مشروع طاغٍ... وكل ما لم يُذكر فيه اسم الله...أبتر... وكل ما لا يُراد به وجه الله... يضمحل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد