: آخر تحديث

لقاء غير سار لخالد محمد خالد مع سيد قطب

5
4
6

تعرَّفنا في المقالِ السابق على الفصل المجهولِ في تاريخ مجلة «الفكر الجديد» عند كلّ الذين كتبوا عن تاريخ حياة سيد قطب. وهو الفصل الذي رواه خالد محمد خالد في سيرته الذاتية «قصتي مع الحياة».

وكنت قد أبرزتُ في رواية خالد محمد خالد سخطَه المبطّنَ على سيد قطب، لهبوطه عليه وعلى محمد الغزالي فجأة - والمجلة كانت قيد الصدور - منتزعاً منهما رئاسة التحرير بقرار من ممولها ومالكها الحاج محمد حلمي المنياوي، وهو الأمر الذي لم يُوغر صدرَ الغزالي على سيد قطب لسبب نفعي خاص به، أوضحته في ذلك المقال.

سيد قطب سيسخط على خالد محمد خالد بعد سنتين من سخط خالد محمد خالد الشخصي عليه، لسبب آيديولوجي وليس لسببٍ شخصيٍّ. هذا السبب هو تحول خالد محمد خالد، الشيخ الأزهري من اتجاه إسلامي إلى اتجاه تحرري في كتابه الأول «من هنا نبدأ» الصادر عام 1950.

نلمس هذا السبب في مقال سيد قطب في مجلة «المباحث». هذه المجلة استأجرها صالح عشماوي - وكيل جماعة «الإخوان المسلمين» من عام 1946 إلى ما بعد تعيين حسن الهضيبي مرشداً لها، الذي بعد تعيينه مرشداً أقاله من منصبه وعيّن فيه عبد القادر عودة - لتكون منبراً إخوانياً، فكانت منبراً إخوانياً مؤقتاً من 30 مايو (أيار) 1950 إلى 23 يناير (كانون الثاني) 1951. وقد أنهى صالح عشماوي استئجارها بعد أن سمحت حكومة مصطفى النحاس بأن يكون لجماعة «الإخوان» منبر إعلامي، فيحصل صالح عشماوي على امتياز مجلة أسبوعية سماها مجلة «الدعوة» صدر أول عدد منها يوم الثلاثاء 30 يناير 1951.

سيد قطب هاجم خالد محمد خالد لدعوته إلى علمنة الدولة والمجتمع في مصر في كتابه الأول «من هنا نبدأ»، وأشاد برد محمد الغزالي عليه في كتابه «من هنا نعلم». مقال سيد نُشر في تلك المجلة الإخوانية المستأجرة بتاريخ 19 ديسمبر (كانون الأول) 1950، وكان عنوانه «من هنا نبدأ ومن هنا نعلم».

ردّ محمد الغزالي الذي صدر في كتاب، كان صالح عشماوي هو من كتب التقديم له.

وكان صالح عشماوي من كتبة «الإخوان المسلمين» السبّاقين في الهجوم على كتاب «من هنا نبدأ»، فمع صدور طبعته الثانية في شهر يونيو (حزيران) 1950 (الطبعة الأولى صدرت في شهر فبراير/شباط ذلك العام) كتب في مجلة «المباحث» بتاريخ 6 يونيو 1950 رداً على إشادة عضو مجلس الشيوخ محمد خطاب بالكتاب، كان عنوانه «قيصر وما للقيصر لله الواحد القهّار». وبتاريخ 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 1950 في تلك المجلة هاجم الكتاب مرة أخرى بمقال عنوانه «من هنا نعلم». وهذا العنوان استمده من عنوان رد الغزالي «من هنا نعلم» الصادر في شهر نوفمبر من ذلك العام، الذي أرّخ صالح لكتابة تقديمه له بـ8 محرم 1370 هجرية، أي 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1950. وأود لفت انتباه القارئ لأن مقال سيد قطب (من هنا نبدأ ومن هنا نعلم) هو المقال الثالث والأخير الذي أثنى فيه سيد قطب على كتب محمد الغزالي، وذلك قبل أن تسوء العلاقة بينهما، فسيد قطب كان من أنصار حسن الهضيبي ومن المدافعين عنه عملاً وكتابةً، والغزالي كان على رأس الثائرين عليه عملاً وكتابةً.

سخط سيد قطب الآيديولوجي على خالد محمد خالد تحول إلى سخط شخصي حانق عليه بلغ حد النفور منه.

علمت بهذا من حكاية سمعتها:

ما بين عامي 1996 و1997 تعرفتُ على رجل فاضل كان يزور بين حين وآخر مكتبة «الإصدارات» في موقعها القديم بشارع مكة - حي المزرعة بالرياض، التي كان يملكها الصديق الراحل سلمان الشبيب.

هذه المكتبة كانت تتميز عن المكتبات التجارية الأخرى ببيع الطبعات النافدة والطبعات النادرة من الكتب، وبيع المجلات العتيقة والدوريات القديمة، سواء المعروفة عند عامة المثقفين أو المعروفة عند خاصتهم من المعنيين بتاريخ الثقافة العربية الحديثة.

صاحب الحكاية كان يزور المكتبة بصحبة سائقه الخاص، الذي كان يتولى دفع الكرسي المتحرك الذي يقتعده صاحب الحكاية. في إحدى زياراته للمكتبة أراه الصديق سليمان الشبيب طبعات قديمة لمجموعة من كتب خالد محمد خالد، يرجع تاريخ طبعاتها إلى الخمسينات الميلادية. فروى لنا هذه الحكاية عن خالد محمد خالد وسيد قطب التي سردها على النحو الآتي:

«مع صدور كتب خالد محمد خالد الأولى، وكنّا في أول الشباب، شغفنا إعجاباً بها، بخاصة (من هنا نبدأ) و(مواطنون لا رعايا). ولمّا أتيحت لي مالياً أنا وشلة من الأصدقاء المعجبين بخالد محمد خالد زيارة القاهرة عام 1953، تطلعنا إلى زيارته في بيته، فهاتفناه من أجل هذا الغرض، فضرب لنا موعداً في مكتبة وهبة. وفي اللقاء الذي جمعنا به كان سعيداً بإعجاب شباب من السعودية به، وكان وجهه يتهلل بِشراً مع حديثه المتدفق إلينا ثم فجأة امتقع وجهه وتوقف عن الكلام لما رأى سيد قطب يدخل إلى المكتبة، لكنه هب واقفاً يُحيي سيد قطب ويرحب به ويسأل عن حاله وأحواله، مخاطباً إياه بأستاذنا، وعرّفه بنا بأننا شباب من السعودية يهوون القراءة، وبالمقابل استقبل قطب حفاوته به بوجه منصرف عن النظر إليه، ورد على حفاوته بكلمات شديدة الاقتضاب تعلن انزعاجه من هذا اللقاء الذي جمعهما في مكان واحد مصادفة، فسكت خالد محمد خالد محرجاً من تصرف سيد قطب المجافي للأدب واللباقة والذي صغّر مقامه أمام فتية أغراب، هو في أعينهم ذو مقام رفيع.

ولما استوى سيد قطب جالساً على كرسي قدّمه له صاحب المكتبة، وهبة حسن وهبة، قلنا له لنرطّب الجو وحتى لا يشملنا باستيائه: نحن نعرف رأي الأستاذ خالد محمد خالد في قضية (تحرير المرأة) فلقد قرأناه في فصل من كتابه (من هنا نبدأ) وسمعنا المزيد منه في حديثه الكريم إلينا، فما رأيك - يا أستاذ - في هذه القضية؟

فأجاب: المرأة التي نريد ليست هي المرأة المحجور عليها بالسعودية، ولا المرأة التي نراها في شارع محمد علي. قال بهذه الإجابة المختصرة ولم يزد!».

مع أن صاحب الحكاية - رحمه الله - وصحبه لم تكن تستهويهم قراءة كتبه الإسلامية، ولا قراءة الكتب الإسلامية الجديدة لمؤلفين غيره، فما تستهويهم قراءته من كتب هي الكتب التي تنشد التجديد والعصرية فإنهم مع هذا أُعجبوا بإجابة صاحب الحكاية - وهو ينطق بإجابته المختصرة كان محتفظاً بالإعجاب رطباً على شفتيه، مع أنه قد طعن في السن.

إجابة سيد قطب المختصرة التي أعجبتهم ترتكز على الحد الوسط الأرسطي ذي القاعدة الذهبية: لا إفراط ولا تفريط، وهي القاعدة المتبعة في علم أصول الفقه الإسلامي.

سيد قطب لما رأى تحلّقهم حول خالد محمد خالد تحلّق المريدين أدرك أنهم مشددون إلى التمدن المقتبس من الغرب في موضوع المرأة وفي موضوعات أُخر. فلو كانوا من الشباب السعودي التقليدي لما كان قال: إن المرأة في السعودية محجور عليها!

إنَّ إجابته المختصرة تعتمد على مغالطة ديماغوجية، فهي تقدم خيارين حادين متناقضين للمرأة: المرأة «المحجور» عليها في السعودية، والمرأة «المتفلتة» أو الراقصة أو «العالمة» في شارع محمد علي.

حرية «العوالم» في شارع محمد علي لا صلة لها بحركة «حقوق المرأة» أو حركة «تحرير المرأة» في مصر، وحركة «تحرير المرأة» لا شأن لها بحريتهن وليس لهن دور فيها بل هن ضدها، لأنهن يرين أنها ضرب من ضروب تسليع جسد المرأة وامتهانه.

حركة «تحرير المرأة» في مصر تستند إلى مرتكزات آيديولوجية طليعية مصدرها الغرب، ورقص «العوالم» إرث مصري مملوكي لم يعرفه الغرب في تاريخه الترفيهي.

إن أولئك الشباب السعودي حين سألوه عن رأيه في حركة «تحرير المرأة»، كانت هذه الحركة لا تزال ناشطةً في المطالبة بمزيد من حقوقها في المشاركة في مجالات شتى، وبإجابة ملتوية مخادعة، كان مثالها عند سيد قطب «عوالم» شارع محمد علي. وللحديث بقية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد