: آخر تحديث

أفكار حول التطوّر التقني وحيرة الإنسان

4
2
4

منذ منتصف القرن العشرين تنبّأ الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر بأنَّ شيئاً ما سيحدث للإنسان بعد التفوّق التقني. ليس الإشكال في القنبلة الذرية، ولا في عوالم الاتصال التي تتطوّر، إنما في علاقة كل هذه الكشوفات بوجود الإنسان نفسه. ثمة حالة انعزال كثيفة مشهودة حالياً بين الصغار والكبار بسبب هذا التفوّق التقني المهول، الذي كتب عنه هيدغر.

في حوارٍ أجراه ريتشارد فيسر مع هيدغر بعنوان «الفلسفة والمجتمع والتقنية والكائن»، وترجمه الأستاذ إسماعيل المصدّق، اختصر هيدغر ذلك الربط بقوله: «يجب أن أقول في البداية بأنني لست ضد التقنية... إنني أرى في التقنية، وبالضبط في ماهيتها، أنَّ الإنسان يوجد تحت قوة تتحداه ولم يبق حراً إزاءها، وأن أمراً ما يعلن في ذلك عن ذاته، هذا الأمر هو علاقةٌ للكون بالإنسان، وأن هذه العلاقة التي تختفي في ماهية التقنية ربما ستظهر للنور ذات يوم».

بالتأكيد التقنية غيّرت من أنماط الحياة والوجود، مهمّتنا اليوم تتركز على الفهم وتجاوز التحديات إزاء هذا المصير الذي نعيشه ولكن كيف؟!

هنا نعود إلى الفيلسوف المعمّر إدغار موران، الذي له إسهامات حول نظرية الحياة وفنّ العيش، يرى أن «تحرير النفس من طغيان الزمن. إيقاعات حياتنا الحالية مبنية على الأجناس الدائمة. السرعة، هطول الأمطار، الانطلاق الذهني، تجعلنا نعيش بوتيرة محمومة. قال سينيكا يجب أن نجعل أنفسنا سادة الوقت، فهذا أغلى بكثير من المال. مثلما توجد حركة طعام بطيئة، يجب تطوير وقت بطيء أو سفر بطيء أو عمل بطيء أو مدينة بطيئة. أن تعيش حياتك أهم من أن تجري خلفها. تتطلب إعادة تخصيص الوقت تنظيماً جديداً للعمل، والنقل، وإيقاعات المدرسة، وإيقاعات الحياة. وهذا يعني أيضاً إعادة اكتشاف معنى (اغتنم اليوم أو وقت النهار ): تعلم العيش (هنا والآن)، كما أوصت به الحكمة القديمة. يتطلب إصلاح الحياة تباطؤاً عاماً ومدحاً للبطء. التوقف عن الجري هو وسيلة لاستعادة وقتنا الداخلي. يجب أن نستبدل زوجين يجمعان الصفاء والشدة باكتئاب التناوب الخبيث والإثارة التي تميز حياتنا الحالية».

بالتأكيد ثمة انزعاج واضح من قبل التربويين الذين يرصدون حالة سُكنى التقنية؛ البعض يشتكي من أن أبناءه لا يحاورونه ولا يتحدّثون إلا بضع كلماتٍ طوال اليوم، هذه كارثة. لسنا ضد التقنية فنحن نعيش في نعيمها، إنما في حالة نقدٍ لطريقة استعمالها واستثمارها. قبل أيام راجت مبادرات فردية تؤسس للانعزال عن التواصل بضع ساعاتٍ في اليوم بغية التواصل الإنساني والذهاب إلى الحدائق والجلوس مع الناس، وهذه مهمة لأنها تعيد الإنسان إلى وجوده الحقيقي ضد الوجود التقني الزائف.

من أكبر أسباب انتشار حالات الكآبة والقنوط أن الإنسان بات مسحوراً بهذه الوسائل التواصليّة، يظنّ أنها تعوّضه عن أسرته وعائلته وناسه وأصدقائه. التقنية هي وسيلة وحين تتحوّل إلى غاية تبدأ الإشكالية الوجودية معها. كينونة الإنسان أنه متواصل مع أخيه الإنسان وهذا أساسيّ للوصول إلى كينونة معتدلة صافية.

الخلاصة؛ أن أسئلة التقنية التي طُرحت منذ أكثر من قرنٍ من الزمان لا تزال راهنةً حتى اليوم، ومن دون مواجهتها فإننا سنظلّ والأجيال من بعدنا ضمن ضحاياها، برأيي الحلّ يكمن في إبقاء التقنية وسيلة استعمال وليست غاية عيش حينها نتمكّن من ضبط إدارة الحياة التي نريد، وأن نتقن «فنّ العيش» الذي تحدث عنه إدغار موران، لكن الأهم أن نتجاوز هذا التحدي نصرةً لكينونة الإنسان. الطوفان التقني القادم أكبر بكثير من الذي نعيشه الآن، فالكشوفات المزمعة مهولة، ومن قبل كتب هيدغر أن على الإنسان أن يسيطر على التقنية لا أن يكون أسيراً لها، ولهذا حديثٌ يطول.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد