: آخر تحديث

"ترحال".. استعراض الثقافات السعودية

2
1
1

في ليلة من ليالي العاصمة التي لا تنام، وبينما كانت الرياض تضجّ بالحياة والحضور الدولي لكأس العالم للرياضات الإلكترونية، كنت في طريقي نحو العرض الثقافي والفني ذي العنوان الشاعري: "ترحال"، لم أكن أعلم أنني على موعد مثير، مع تجربة تتجاوز حدود الترفيه، وتلامس وجداناً أعمق.. تُبرز الهوية والمنشأ، وتحكي رحلتنا بلغةٍ عصرية آسرة.

ما إن خفتت أنوار المسرح شبه الدائري، وتهادت نحونا أصوات الرياح، انسدلت الستارة عن المشهد الأول وانبثقت المباخر العملاقة، حتى انطلقت رحلة الشاب "سعد" مع رسالة جده، لكنها لم تكن دعوة إلى المستقبل فقط، بل رحلة نحو الداخل والحاضر.. إلى الذاكرة الجماعية، إلى الموروث الشعبي الذي تسكنه الأهازيج والألوان واللهجات. ومنذ تلكم اللحظات الساحرة، بدا العرض وكأنه يهمس لنا بأن المسرح ليس فضاء للحكاية فقط، بل مساحة لإعادة اكتشاف الذات وفهم الهوية.

"ترحال" لم يكن مجرد استعراض راقص أو حدث فني عابر، بل تجربة حسية متعددة الأبعاد، اجتمعت فيها الموسيقى الفلكلورية، والرقصات الإيقاعية، والإسقاط الضوئي، والسينوغرافيا المتقنة، والخط العربي المبهر، وبالتأكيد الأزياء اللافتة التي تحاكي تفاصيل مناطق سعودية مختلفة، كنت أشعر بين كل مشهد وآخر أن العرض يخاطب وجدان المشاهد بلغته، سواء كان سعودياً فخوراً بتفاصيل هذه الأرض، أو ضيفاً من ثقافة أخرى جاء ليستمتع بوقته، فوجد نفسه محلقاً أمام وطنٍ غنيٍ بكل شيء.

والحقيقة أن ما ميّز "ترحال" في نسخته الثانية، هو حرفية التنفيذ واتساق الرؤية الاتصالية التي تقف خلفه، بدا واضحا أن وزارة الثقافة لم ترغب فقط أن تُبهِر الجمهور، بل أن توصل رسالة: بأن ثقافتنا السعودية اليوم ليست فقط مادة للعرض التقليدي المباشر، بل قوة ناعمة نمتلك أدواتها ونحسن عرضها.

ولعل من أبهى لحظات العرض، تلك المشاهد التي دمجت بين الحداثة والتراث، حين اجتمع "السامري" مع تحضير الجد للقهوة السعودية، أو حين امتزج "خبيتي" ينبع مع إيقاع عصري في خلفية المشهد، أو حينما مر "سعد" على قرية الورد، وظهرن مجموعة الفتيات ونثرن الورد الطائفي على الجمهور، هنا بدا العرض وكأنه يعيد تشكيل المشهد بروحنا الخاصة.

في المشهد السابع عشر بلغ العرض ذروته الإبداعية في لحظته الختامية، وسط تصفيق الحضور المكتظ، الذي لم يكن بهرجة بصرية، بل رسالة فخر واعتزاز، هنا أدركت أن "ترحال" لم يكن استعراضا فقط، بل حالة فنية متقنة جسدّت أن الوطن يجب أن يُروى على خشبة المسرح كما يُروى في كتب التاريخ، بل ربما أكثر، لأن الأثر أبلغ!

نحن اليوم بحاجة إلى المزيد من هذه التجارب والعروض، التي تدمج الفن بالهوية، والترفيه بالرسالة، وتأخذ الوطن إلى قلب المسرح، وبالتأكيد "ترحال" ليس مجرد استعراض مسرحي عابر، بل موجة جيلٍ قادم يكتب روايته السعودية بثقة واحتراف.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد