في النظام البرلماني البريطاني تضع الحكومة جدول الأعمال وتتحكم في إيقاع المجلس، لكن تقاليد وستمنستر لحماية الديمقراطية تخصص 17 يوماً في السنة البرلمانية لـ«أيام المعارضة» (14 للمعارضة الرسمية و3 للأصغر – الديمقراطيين الأحرار)؛ لاختيار أجندة العمل ومشاريع قوانين جديدة في مجلس العموم. صادف أن جلسة مساءلة رئيس الحكومة، التي عُقِدَت الأربعاء، كانت في يوم «المعارضة»؛ فتحول إلى يوم معارضة بالمعنَيَيْن الإجرائي، والسياسي الحيّ الذي شهدته الجلسة.
مَن يتابع أحداث هذا الأسبوع يدرك شيئاً يتشكل بوضوح: كير ستارمر، رغم فوزه الساحق قبل 17 شهراً، بدأ يبدو كأنه زعيم قاربت صلاحيته على الانتهاء، أو كما وصفته زعيمة المحافظين، كيمي بيدنوك، بمهارة ممزوجة بلؤم سياسي: «رئيس وزراء مؤقّت... مجرد بواب حراسة حتى يصل مدير جديد للمحل».
بيدنوك دخلت الجلسة مسلّحة بميزة نادرة؛ قرعة اختيار 15 نائباً لتوجيه الأسئلة، جاءت بثلاثة محافظين، مما أطال مدة الهجوم إلى 9 مداخلات. ولم يكن الحظ وحده، بل الإعداد الدقيق من بيدنوك، والنواب الثلاثة بأرقام من مصادر الحكومة نفسها.
واجهت بيدنوك ستارمر بالانقسام داخل حزبه، وتراجع شعبيته، والأزمة الاقتصادية، وزيادة الضرائب، وارتفاع فواتير الطاقة، وتراجع أعداد رجال الشرطة والمعلّمين. وكلما لجأ إلى إجابة إنشائية، ردّت بكلمة واحدة: «خطأ»، ثم تقصفه بالرقم الصحيح.
وجاءت لحظة الذروة بملف التعليم. فقد قال ستارمر بثقة إنّ عدد المعلّمين «أعلى مما كان عليه عند مغادرة (المحافظين) للحكم». عندها توقّفت بيدنوك، ونظرت إلى مقاعد الحكومة، ثم سألت: «أين وزيرة المعارف؟».
تركت السؤال يحلّق في الصمت لثانية، ثم أضافت، بضحكة ساخرة: «ها هي».
السؤال ذو حدّين: تكذيب ستارمر مباشرة بأرقام وزارة المعارف عن انخفاض عدد المعلّمين منذ تولي «العمال» الحكم؛ وأيضاً التذكير، بخفة دم سياسية، بأن الوزيرة بريجيت فيليبسون اعتذرت في اللحظة الأخيرة عن عدم حضورها، مثل الضيف المحاضر، الغداء الشهري لمجموعة الصحافة البرلمانية؛ متهربةً من مواجهة أكثر مناسبات السلطة الرابعة ودّية.
رسالة بيدنوك: إذا كان الوزراء يهربون من الأسئلة الودية، فكيف سيدير «العمال» المدارس والجامعات؟
ستارمر بدا خارج الإيقاع. وبيدنوك مثل بندقية سريعة الكلمات، ذكرت تنسيق وزيرة الداخلية مع توني بلير لأنها «فقدت الأمل» في الزعامة الحالية، ونصف عدد الوزراء ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على كرسي الزعامة. واختتمت بقنبلة كلامية: «الوحيدة التي لا تسعى لخلافته هي وزيرة المالية؛ فمهمتها الوحيدة البقاء في منصبها».
وهنا تغيّر مزاج القاعة؛ تجاوز المشهد السجال البلاغي ليصبح تشريحاً علنياً لزعيم فَقَدَ قبضته على حكومته.
ثم مفاجأة من جهة غير متوقعة: إد ديفي، زعيم الديمقراطيين الأحرار. ديفي عادةً يوزّع انتقاداته على «اليمين»، محافظين وحزب الإصلاح، ويدعو إلى تبني نظام التمثيل النسبي ثم ينسى الجميع كلامه. الأربعاء، فتح النار مباشرة على ستارمر.
تساءل عن ضعف موقفه تجاه هجمات الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أوروبا وعلى عمدة لندن. لم يقدّم ستارمر جواباً صريحاً؛ اكتفى بخطاب عام عن القيم والوحدة. فابتسم ديفي وقال بهدوء لاذع: «لم أسمع أي التزام بالتصدي لترمب؟».
وانتقل للملف الأوروبي، متسائلاً عن سبب رفض ستارمر الانضمام للاتحاد الجمركي الأوروبي، رغم تأييد شخصيات عمالية بارزة هذا الأسبوع: «هل يرفض لخشيته أنه لن يكون هنا بعد عام؟».
عندما يصبح بقاء رئيس الوزراء موضع شك حتى من أحزاب صغيرة، فهذه إشارة لا تخطئها الحاسة السياسية.
وفي خلفية المشهد، تفجرت أزمة موازية: انتقادات شديدة لستارمر بسبب تعيين 25 لورداً من حلفائه لمجلس اللوردات، وهو ما رآه كثيرون محاولة لتمرير مشاريع قوانين لم تذكر في برنامجه الانتخابي، مثل مشروع إلغاء اعتبار الإجهاض جريمة، ومشروع قانون المساعدة على انتحار مرضى ميؤوس من شفائهم، وهي مشاريع يصعب تمريرها من دون ترويض مجلس اللوردات. لكن اللوردات، بطبيعتهم، يراجعون ويدققون بعدسة شارلوك هولمز، خصوصاً في قرارات الاستعجال السياسي.
هكذا تحقّق مشهد نادر: المعارضة الرسمية تضرب، والمهشمة تهاجم بشراسة، اللوردات يتمرّدون، والحكومة تبدو كأنها انتقالية أكثر منها حكومة أغلبية بولاية كاملة.
ستارمر لا يزال يملك الأغلبية، وصلاحيات سيد داونينغ ستريت، وكل عناصر السيطرة الشكلية. لكن الهيبة -تلك السلعة الثمينة التي لا تُشترى ولا تُستعاد بسهولة- بدأت تنزلق من بين يديه.
وفي ختام يوم المعارضة هذا الأسبوع، كان السؤال الأكبر الذي لم يُطرح بصوت عالٍ، لأنه أصبح واضحاً للجميع: متى سيتم تسليم مفاتيح المحل؟

