لم تكن الأحداث المشتعلة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) مضبوطة بمقياسٍ محدد، ولا كانت مستقرّة بمفهوم حربيّ يعتمد على الجولة والأخرى المضادة. بل تتصاعد يومياً الأحداث ومعها يحمل كل حدثٍ ترسانته الآيديولوجية، أو اللغوية، أو العرقية.
الآن ومع وصول الحروب إلى ذرواتها لجأ المتخاصمون إلى أخطر توظيفٍ يمكن أن تستند إليه معركة، وأقصد به استخدام المفاهيم المقدّسة أو الدينية من «التوراتية» الإسرائيلية، إلى «الكربلائية»، وليس انتهاءً باستعادة الدروز قوميتهم الأولى وتاريخهم المقدّس بعد تصاعد التوترات الأخيرة في سوريا.
حين تُستعاد بالحروب الطاحنة والدنيوية مفاهيم دينية فإنَّ هذا يعني إطالة أمد الحرب، وإمداد الأتباع بأعلى صيغ التحشيد التي تجعلهم أسرى لفكرة الحرب بصفتها «تضحية مجدية»؛ وهو مفهوم يتضمن في تضاعيفه الكثير من الوحشية والعنف. لذلك تأتي مقاربات تحليل «العنف المقدّس» ضرورية لفهم هذا الواقع الصعب. لقد تتبّع رينيه جيرار في كتابه «العنف والمقدّس» جوانب وأصول العنف والتضحية؛ ليس انطلاقاً من التأويلات والمخاتلات، بل المتخلّقة من رحم الثقافات بكل أطيافها، فهو يبحث في العلاقات بين كلٍ من التضحية والمقدّس والعنف.
سيكمل جهد جيرار تلميذه بدراسةٍ مهمة، ولها علاقة بموضوع التضحية، وأعني به أستاذ الفلسفة بجامعة «ريتسوميكان» بول دوموشيل. عنوَن دراسته بـ«التضحية غير المجدية - بحث في العنف السياسي». الكتاب كان قد أهداه المؤلف إلى رينيه جيرار.
بول دوموشيل حلّل معنى العنف حتى لدى آكلي لحوم البشر، كما في عَوْده المتكرر إلى طرح آلان كوربن في كتابه «قرية آكلي لحوم البشر»، الذي يحلل فيه حادثة عنف جماعي حدثت في إقليم دوردوني خلال حرب عام 1870.
لاحقاً يدخل على خطّ مفهومي مهم نحتتْه حنة أرندت، وهو «تفاهة الشر»، ويشرّحه باعتباره «يعبّر عن اندهاش أمام ما يمكن أن نسميه (عدم تقديس الجلاد)، ذلك أن ضخامة الجريمة وبشاعتها لا تمنحان أي عظمة لذاك الذي اقترفها، وأنهما لا تحيطانه بهالة مقدسة، ولا تمنحانه أي صفة غير عادية شريرة، تتناسب مع أفعاله، إزاء الإنكار الذي تظهره نفسيته وأساليبه. إن تفاهة الشر تميل بالجلاد إلى مستوى ضحاياه المجهولين، الذين لا وجه لهم، إنهم أعداد لا تُحصى من أناسٍ غير معروفين».
من هنا يكون استعمال المفهوم المقدّس من أجل تبرير العنف أو الحشد له يجعل الحروب أكثر وحشيةً، بل منفصلة عن أسس وأصول الحرب وتقاليد الاشتباك. ما من حربٍ إلا ولها طواحينها وآلامها وأوجاعها، غير أن استعمال عقائد المجتمعات من أجل تحقيق الهدف السياسي يجعل الحرب أكثر ضراوةً وأشدّ فتكاً، وأقرب منها إلى حالة ما قبل الطبيعة حيث يتحوّل الطرفان إلى ذئبين، كلاهما ينهش الآخر حتى الموت.
من الضروري تغليب صوت الحكمة في هذا المحيط المتلاطم، ما بين تهديداتٍ بحروبٍ أهلية، وأخرى باستهداف سفاراتٍ ومدنيين.
المجتمعات، خصوصاً منها المنكوبة، في حاجةٍ إلى خطاب تنموي حضاري يركّز على المستقبل، لا إلى خطاباتٍ قديمة تؤسّس لثقافة التخريب والعنف والاستئصال. من هنا أذكّر بما كتبه الدكتور أنور قرقاش حول هذه المرحلة الصعبة قائلاً: «ما أسهل التحريض المتهافت الذي يُلهب العواطف ويهوى جلد الذات، وما أشد حاجتنا اليوم إلى خطاب العقل والحكمة الذي يُطفئ نيران الفتن ويعالج أخطاء الفكر والممارسة التي أوصلت المنطقة إلى ما هي عليه». نعم هذا هو الأساس أن نتوجّه نحو خطاباتٍ مدنيّة تنموية تؤمّن المستقبل للمجتمعات التي تطمح إلى نهاية سريعة لنكباتها الأليمة.
الخلاصة؛ إن التوظيف المستجدّ لمفاهيم دينية بغية الوصول بالحروب إلى ذروتها إنما يعبّر عن رغبةٍ جامحةٍ لدى الأطراف بأن يستمر هذا الصراع، ليصل إلى أقصى ما يمكن أن يصل إليه من توحّش وعنف، وفي هذا خطر كبيرٌ على الدول المتصارعة، وله ارتداداته على دول الإقليم... من هنا وجب الانتباه والاستعداد إلى ما بعد هذا الاستعمال الخطير.