: آخر تحديث

إعادة التشويش أمر حتمي

3
2
3

عبده خال

هل يكون حديثك مع تقادم السنوات نوعاً من أنواع الاجترار؟

لنعد قليلاً فيما كتبت عن الشفوي، والمكتوب، نعم، سبق أن ألقيت الكثير من المحاضرات حول العديد من القضايا الأدبية، وربما كانت معظمها شهادات عن تجربتي الروائية، ومع تقدّم وسائل ثورة المعلومات بقيت متمركزاً في أن المعلومة وفيرة، بينما معرفة كيف تم الوصول إلى تلك المعلومة ظل قاصراً لدى الباحث عن المعلومة (بضغطة زر)، وهناك فرق بين المعلومة والمعرفة، لندع هذه النقطة، وأعرّج عن تفلت الكنوز الشفوية كحديث، نعم لا يزال الكثيرون يسعون لتوثيق الشفوي الذي مرّ بنا، إلا أن هناك نقطة في منتهى الدقة، تتفلت منا، وهي حرارة السارد الشعبي، وتلوّن صوته، واختفاء حركته، وصمته، ومواصلته للحديث، أمور كثيرة تلازم الحكاء الشعبي.. نعم أنا ابن الحكاية الشعبية، فأول المدارس التي التحقت بها هي الجلوس أمام (حكاءة) والإصغاء الجيد لكل ما تقوله.. وربما كانت هذه البداية الأولى لمعرفة أثر الحكاية على الحضور.. ومنذ ذلك الزمن وأنا أحاول الإمساك بسر الحكاية.. سر أن تتحدث والجميع يصغي.

هل للحكاية جن أو ملائكة حتى يغدو السامع قطعة من متعة تسيل اشتهاءً وعسلاً بتدفق الحكاية؟

في طفولتي تلك كنت لا أريد سوى تتبع الأحداث وكأنها القناة (الفنية) التي تجرى بها الحياة.

وعندما (فتحت الخط) بدأت أتتلمذ على الحكاية المكتوبة، وظللت سادراً في متعة المكتوب، إلا أن عالمي الشفوي، والمكتوب بينهما مساحات كبيرة يسكنها الفراغ.

فالانتقال من الشفوي إلى المكتوب أحدث فوارق مهولة وأثراً على الحكاية في معطياتها الدلالية، وحركيتها المتسارعة.

فالحكاية الشعبية لها تقنيات مختلفة عن المكتوب.. فالسرد الشعبي حر، طليق بينما المكتوب كائن سجين، وعلى المتلقي أن يكون عالِماً بالاختلافات الجوهرية في سرد الحدث بين الصياغتين.

فالشفوي جاذب للسمع، والمقروء جاذب للبصر وبين السرعتين تختلف المتعة.

في فترة سابقة نشطت الأندية الأدبية في الاحتفاء بالقصة وأقيمت الأمسيات المتعددة وفي كل أمسية قصصية تظهر الفروقات بين المسموع والمكتوب.

وإن كانت تلك الأمسيات ملتزمة بالمكتوب، والمتدرب على سماع الحكايات الشفوية يضيق ذرعاً بما يقال، لأن السارد مثل من يحمل بطيختين بيد واحدة، هو يريد إسماعك قصته إلا أنه متورط في المكتوب، والنجاح مرتهن بالمقدرة التمثيلية للقاص بحيث يستعير جزءاً من أدوات السارد الشفوي.

وأهم مميزات السرد الشفوي:

- الإعادة المستمرة للزمات تكون فاصلة الانتقال من حدث لآخر.

- إدماج الحكاء كل الحواس أثناء السرد من يد، وعين، وحركة جسد، وتلوين صوت، وتمثيل حالة الحدث تهويلاً أو خضوعاً.

- مشاركة المستمع في الحكي استدراكاً أو مضيفاً، أو مستفسراً.

متعة الحكي تختلف باختلاف الزمان والمكان أثناء قراءة الحكاية المكتوبة، بينما الحكاية الشعبية اتخذت من الليل سكنى لها، عادة لا يقتعد لسماع الحكاية إلا ليلاً.

- نفسية الحكاء الشعبي تؤثر في السرد إيجاباً أو سلباً، وكذلك نفسية المستمعين، فأي منهما يجري الكدر في داخله، تتباطأ حالة السرد كمؤشر لضيق نفسية أي منهما.

- وفي الحكاية الشعبية يتم إضافة أحداث، أو إلغاء أحداث.

- كل سارد لحكاية شعبية يضيف ويحذف.. قد تكون هذه أهم سمات الحكاية الشعبية، بينما القصة المكتوبة تحفل بجوانب أخرى.

- بعد الانتهاء من كتابة الحكاية تمنع عنها الحذف أو الإضافة، إذ تكون في حالة اكتمال.

- كلما كان أسلوب الكتابة متقدماً صعب على القارئ التواصل الحقيقي مع الحدث.

- القصة المكتوبة لا يعود لدى السامع فرصة التغير والتبديل، بل يمنحها بعداً من مخيلته.

- القصة المكتوبة تحاول التوسط بين المكتوب والشفوي عند سردها من قبل القارئ، وهنا يحدث انتصار للشفوي مقابل المكتوب... ونجد أن الذات تتنهزه بين العالمين كما يحلو لها من غير الاحتزام بالفوارق بين العمليتين.

إن صياغة الأحداث المكتوبة والشفوية بحاجة إلى مصفاة لتكرير ما تساقط هنا أو هناك، فالحكاية في الحالتين سقط منها شيء لا يستعيده الزمن حتى لو كان (للقارئ أو المستمع) مخيلة فذة، فما تنتجه المخيلة يكون فائضاً ليس من أصل الحكاية.

-هل أستطيع القول إننا حكايات ناقصة؟

لهذا، أشعر فعلاً بنقص الحكاية المكتوبة عمّا يصاحب الحكاية الشفوية من لوازم ماتعة، التي اعتبرها من أصل الحكاية وليست طارئة عنها أو عليها.

الآن هل -ومع المناداة لموت الشاعر.. النقد.. الراديو.. التلفاز- انتشرت مفردة الموت حتى تظن أن المنادين بها هم ( قبرجية)، ويصبح القول بموت الراوي الشعبي ( قفلة ضومنة).

الآن، ظهر الذكاء الاصطناعي وكانّه الغول الذي جاء ليبز ما سبقه من تعبيرات أو أدوات، ولأني لا أؤمّن بالموت بمعنى التلاشي، لأن كل موت تلحق به حياة مغيرة لما سبقها من حيوات، فالذكاء الاصطناعي سيقسم نفسه بنفسه لتكون هناك حالة توالد، ومن أساليب تلقي الأوامر هناك أوامر صوتيه، والصوت حالة شفوية، فالصوت لا يموت حتى وإن خفت فطاقته مستمرة في التذبذب.. إذاً لِنُعِدْ الدائرة بين الشفوي والمكتوب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد