في مقاله الرّثائي عن عبد الحليم أبو شقة، أحدِ أعضاء «لجنة الشباب المسلم» - ليدلّل الشيخ يوسف القرضاوي على سماحة خلق أعضاء هذه اللجنة بأخذهم الأمور بالإغماض والترخص، واحتمال الجناية بسعة صدورهم - ذكر أنَّهم تتلمذوا على علماء من خارج «الإخوان المسلمين» لهم موقف متحامل على «الإخوان المسلمين»، والمثال الوحيد الذي ذكره، كان محمود محمد شاكر الذي قال عنه: كان ينقد الإخوان ومرشدهم الأول حسن البنا بلسان حاد.
ما ينقل من قول شفاهي لمحمود محمد شاكر في جماعة «الإخوان المسلمين» وفي مرشدهم الأول حسن البنا لا يعد «نقداً»، بل هو توبيخ وتقريع لهم، وازدراء وتسفيه لمرشدهم. فهناك بون شاسع بين «النقد» و«الشتيمة».
محمود الطناحي تلميذ شاكر، في مقال منشور له في أواخر التسعينات الميلادية، كان عنوانه «محمود محمد شاکر والسهام الطائشة» قال بدعوى «نقد» محمود شاكر للإخوان المسلمين ولحسن البنا.
قال الطناحي في هذا المقال: «والذي لا تعرفه يا أستاذ سمير أن محمود شاكر كان من أكثر الناس بغضاً لهذه الجماعات (يقصد الجماعات التي سمَّاها سمير غريب بجماعات الإرهاب باسم الدين في مصر)، بل إنَّ مواقفه ضد (الإخوان المسلمين) وكل الجماعات الإسلامية مواقف معروفة ومستنكِرة، وكان يجهر بمواقفه ولا يكتمها، وكذلك كان أخوه الأكبر محدِّث العصر الشيخ أحمد شاكر، ومقالته عقب اغتيال محمود فهمي النقراشي مشهورة، وكان قد سمَّاها: (قيّد الإيمان الفتك)، ونشر على الناس، بجريدة (الأساس)، فاقرأوا التاريخ يا ناس! (وانتظروا آخر كلمة لي في هذا المقال، ففيها رفع لهذا الالتباس)».
ما شأن محمود شاكر بمقال أخيه الشيخ أحمد (قيّد الإيمان الفتك)، المنشور بجريدة (الأساس) في 2 يناير (كانون الثاني) 1949 عقب اغتيال محمود فهمي النقراشي، رئيس الوزراء في 28 ديسمبر (كانون الأول) 1948 عقاباً له على حلّه جماعة «الإخوان المسلمين» في 8 ديسمبر 1948؟!
فهل هو كاتب هذا المقال الذي استنكر فيه أخوه الشيخ أحمد على «الإخوان المسلمين» اغتيالهم للنقراشي؟!
إن في قوله عن مقال أحمد محمد شاكر: «ونشر على الناس بجريدة (الأساس)» تلبيساً على الناس الذين يجهلون الحياة الصحافية ودنيا الأحزاب السياسية المصرية قبل استيلاء الضباط الأحرار على السلطة في مصر.
فجريدة «الأساس» هي جريدة «الحزب السعدي» أو «الهيئة السعدية» التي كان يرأسها رئيس الوزراء النقراشي قبل اغتياله. فهذه الجريدة كانت لسان حال «الهيئة السعدية» ولسان حال الحكومة السعدية في عهد النقراشي. وفي التاريخ الذي نشر فيه مقال الشيخ أحمد في جريدة «الأساس»، كان رئيس الوزراء هو إبراهيم عبد الهادي العضو في «الهيئة السعدية» والذي في عهده اغتيل مرشد «الإخوان المسلمين»، حسن البنا، بعد شهر ونصف الشهر من اغتيال النقراشي. فالبنا اغتيل في 12 فبراير (شباط) 1949.
استناداً إلى هذا التوضيح، فجريدة «الأساس»، هي أولى من أي جريدة حزبية وغير حزبية، بنشر المقال.
التلبيس على الناس بدأ من الشق الأول للعبارة وهو: «ونشره على الناس»!
هذا الشق من العبارة مع أن الطناحي أراد به التلبيس على القارئ إلا أن معناه ملبس.
فهل معناه أنه نشر المقال على الناس بشجاعة، وأن التصدي لـ«الإخوان المسلمين» بالنقد والإدانة في ذلك الوقت بمثابة التجديف المتهور أمام جموع من الناس، وكان من الحكمة أن ينشر نقده وإدانته على حبل سري أو مخفي؟!
الطناحي قبل أن يقول كلمته الكفيلة برفع الالتباس عن غير المعروف في علاقة أستاذه محمود شاكر بالجماعات الإسلامية وبـ«الإخوان المسلمين»، خاطب المسيحي نسيم مجلي قائلاً: «ولم يكن من بين من حاربهم إلا مسيحي واحد، هو لويس عوض، ومن وراء لويس عوض كان من الذين صارعهم محمود شاكر واشتد في حربهم: طه حسين وعبد العزيز فهمي وسيد قطب، بل إن موقفه العنيف من الشيخ حسن البنا وجماعة (الإخوان المسلمين) معروف مذكور، وكان عنيفاً جداً مع حسن البنا وجماعته، وهو ما كان يأخذه عليه كثير من المسلمين».
كثير من المسلمين!
رحمك الله يا طناحي وغفر لك! فهل جماعة «الإخوان المسلمين» هي جماعة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟!
وهل المسلمون هم جماعة «الإخوان المسلمين»؟
إنها – وايم الله – عين الحالقة التي حدثنا محمود شاكر بأنها تفشّت في الكتابات الإسلامية المحدثة، وذلك في مقال من مقالات أربع كتبها في أول الخمسينات الميلادية.
غفل الطناحي – أو بالأحرى – تغافل عن أن المسيحي المصري الوحيد، لويس عوض الذي حاربه في مجلة «الرسالة» بمجموعة ردود جمعها لاحقاً في كتاب عنوانه «أباطيل وأسمار»، حاربه مع غرس رمح تعصبه الديني في اتجاهات سلامة موسى وغالي شكري.
إن محمود شاكر في تلك الردود على لويس عوض، وعن طريق ذلك الكتاب المشار إلى عنوانه آنفاً، هو لا غيره الذي صنع للإسلاميين ثالوثاً قبطياً، أقانيمه مكوّنة من سلامة موسى ولويس عوض وغالي شكري. وهذا الثالوث القبطي في صنيع محمود شاكر كان ديدنه التآمر على الإسلام والمسلمين!
وکرّس هذا الثالوث القبطي وعمّده عند الإسلاميين جلال كشك في أكثر من كتاب له.
في آخر المقال أتى الطناحي بكلمته رافعة الالتباس، لنقرأها معاً.
قال الطناحي: «وقد ادخرت نصين من كلام محمود شاكر يدينان هذه النابتة التي نبتت في أرض بلادنا وتسمت بالجماعات الإسلامية. وهذان النصان يكشفان عن توجه محمود شاكر الفكري وإدانته لطائفة من بني دينه، بعيداً عن لويس عوض والمسيحية وسائر ما يدمغه به القوم.
يقول رضي الله عنه في مقدمة تحقيق أسرار البلاغة: (بل بلغت الاستهانة مبلغها في الدين، بعدما نشأ ما يسمونه بالجماعات الإسلامية، فيتكلم متكلمهم في القرآن وفي الحديث بألفاظ حفظها من شيوخه، ولا يدري ما هي، ولا يرد بل يكذّب أحاديث البخاري ومسلم بأنها من أحاديث الآحاد، بجرأة وغطرسة!
بل جاء بعدهم أطفال الجماعات الإسلامية، فيقول في القرآن والحديث والفقه بما شاء هو، ويرد ما قاله مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل، ويقول: نحن رجال وهم رجال!
أي بلاء حدث في زماننا هذا؟ إنما هو وباء الاستهانة بكل شيء، وباء تفشى في مصر بل تجاوزها)».
لديّ أكثر من رد على هذا الكلام.
الكلام الذي نقله الطناحي، نقله من مقدمة تحقيق محمود شاكر لكتاب عبد القاهر الجرجاني «أسرار البلاغة». وهذا التحقيق صدر في عام 1991. وهذا الكلام المكوّن من سطور قليلة، قاله محمود شاكر وقد تجاوز الثمانين من عمره. وقاله في وقت متأخر من عمر الجماعات الإسلامية، ومتأخر جداً من عمر «الإخوان المسلمين».
السطور التي قالها في نقد الجماعات الإسلامية هي سطور قليلة في مقدمة معظم سطورها مخصصة للنيل من الإمام محمد عبده وطه حسين. كتاب «أسرار البلاغة» بتحقيق محمود شاكر ليس هو ذلك الكتاب المقروء عند عامة القراء، فالذين قرأوه قلة منها، أغلبهم قرأوه بوصفه متطلباً دراسياً في الكلية المعنية بتدريس اللغة العربية وأدبها وبلاغتها. الكلام الذي قاله محمود محمد شاكر كلام مبهم ومُلغز. فلقد قاله على طريقة رأيت أقواماً...
فعن أي جماعات إسلامية يتحدث؟ ومن هو متكلمهم؟ ومن هم أطفال الجماعات الإسلامية؟ وأين اسم «الإخوان المسلمين» في هذه الجماعات؟
سأجيب عن هذه الأسئلة في مقدمة المقال القادم.