: آخر تحديث

أوكرانيا في بيروت: من الاتصالات إلى معركة السرديات

2
2
2

لم يكن اللقاء الذي جمع وزير الاتصالات اللبناني شارل الحاج بالسفير الأوكراني الجديد في بيروت رومان غوريانوف، قبل أسابيع، مجرد زيارة بروتوكولية لتبادل المجاملات حول "تعزيز التعاون في مجال الاتصالات". تركيب العناصر المحيطة بالمشهد، من خلفية الوزير وشبكة مصالحه إلى طبيعة المنظومة الإعلامية الأوكرانية وعلاقاتها بالمانحين الغربيين، مروراً بعلاقة السفير مع حزب القوات اللبنانية، يكشف عن محاولة أوكرانية هدفها بناء "منصة" نفوذ ناعم تتجاوز الإطار التقني إلى حدود هندسة الوعي في لبنان وسائر المنطقة.

شارل الحاج ليس وزيراً طارئاً على عالم الاتصالات. الرجل جاء من قلب القطاع، شريكاً ومؤسساً في مجموعة "مدى" للاتصالات التي تمدّ خدمات الإنترنت والاتصال في لبنان وبلدان أفريقية عدّة، من جنوب السودان إلى ليبيريا وسيراليون وغيرها.

هذه الخلفية تجعل أيّ عرضٍ للتعاون بين "اتحاد وكالات الأنباء الأوكرانية الرسمية" مثلما عرض السفير الأوكراني، وشركة يملكها أو يهيمن عليها الوزير الحاج، أبعد من مجرد مشروع تجاري، وإنما محاولة من أجل وصل البنية التحتية للاتصالات في لبنان والمنطقة بخط إعلامي وسياسي محدّد يحمل توقيع كييف وحلفائها.

منذ انعقاد الاجتماع إلى اليوم، وبحسب ما تسرّب، لا يتوقف النقاش في لبنان عند حدود توفير خدمات أو منصات تقنية، بل يتعدّاه إلى اتفاق بين الجمعية الأوكرانية (اتحاد وكالات الأنباء) وشركة "مدى"، لتوزيع المحتوى والخطاب الأوكراني في الفضاء العربي، وربما تحت غطاء لبناني رسمي، لكن بشكل خفي تمثّله وزارة الاتصالات.

عملياً، يجري التحضير لإطلاق "ناطق أوكراني غير رسمي" في المنطقة العربية، يتولى ضخّ السردية الأوكرانية المؤيدة للغرب في الإعلام العربي من دون أن يخرج بصفته جهاز دعاية حكومياً تقليدياً.

في الخلفية، المنظومة الإعلامية الأوكرانية باتت منذ سنوات جزءاً من شبكة واسعة لبرامج "القوة الناعمة" الغربية. مؤسسات إعلامية ومنظمات غير حكومية في هذا القطاع تلقت وتستمر في تلقي تمويل من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، الصندوق الوطني للديمقراطية، ومؤسسة المجتمع المفتوح، إلى جانب برامج ومشاريع أوروبية. أمّا عنوان التمويل فهو دعم الإعلام المستقل وتعزيز الشفافية ومواجهة الدعاية الروسية، لكنّ المحتوى الفعلي سوف يصبّ في اتجاه واحد تقريباً: تثبيت رواية معينة للحرب ولموقع أوكرانيا في النظام الدولي وللعلاقة المطلوبة مع موسكو.

ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية في أوكرانيا وتقلّص أو تعليق عدد من برامج التمويل الغربية، بات البحث عن أسواق نفوذ جديدة وجماهير جديدة ضرورة ملحّة أكثر منه مجرد توسّع طبيعي. من هذه الزاوية، تبدو بيروت خياراً مثالياً: مدينة منفتحة ذات تاريخ طويل في احتضان وسائل الإعلام العربية والدولية، وتعيش اليوم تحوّلاً سياسياً عميقاً مع تراجع نفوذ محور طهران عن سنوات ذروته. عبر بوابة وزير الاتصالات وشبكاته، يمكن لكييف أن تحجز لنفسها مقعداً متقدماً في المشهد الإعلامي العربي بكلفة أقل وشرعية أعلى.

على المستوى السياسي، لا تتحرك كييف في فراغ. اختيار وزير الاتصالات وكذلك حزب القوات اللبنانية المقرّب من الوزير بوابة رئيسية للتواصل مع النخبة السياسية اللبنانية، تواصل ينسجم تماماً مع التموضع الإقليمي للأطراف. فالقوات اللبنانية هي واحدة من أكثر القوى اللبنانية التصاقاً بالمحور الغربي وأكثرها تشدداً في العداء لإيران وأذرعها، وبالتالي لروسيا.

حين ينسج السفير الأوكراني علاقة وثيقة مع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ويوثّقها عبر لقاءات متكرّرة ودعم متبادل في المواقف من الحرب مع روسيا، فالمسألة ليست مجرد دبلوماسية علاقات عامة، بل تموضع داخل الخارطة اللبنانية لصالح المعسكر الذي يرى في موسكو امتداداً لخصومه الإقليميين.

في موازاة السياسة، تُفتح جبهة "النفوذ الثقافي" من بوابة الجامعة الأميركية في بيروت. الحديث عن تبادلات طلابية وأنشطة ثقافية في مركز أوكراني للعلوم والثقافة على هامش الجامعة يستهدف تحديداً الفئات الشابة المتعلمة، تلك الفئات التي تتحول لاحقاً إلى نخب في الإدارة والمال والإعلام والمجتمع المدني. الاستثمار في هؤلاء عبر المنح والبرامج والتبادلات يعني عملياً زرع سردية معينة عن أوكرانيا وروسيا والغرب في أذهان شريحة ستجلس غداً في مواقع القرار أو التأثير.

الخطورة في كل هذا تكمن في تماهي هذه الشبكة الإعلامية والثقافية مع بنية الاتصالات نفسها في بلد صغير ومفتوح ومأزوم مثل لبنان. حين تصبح وكالات أنباء رسمية أو شبه رسمية مربوطة بعقود تعاون مع طرف يُمسك بمفاصل حساسة في قطاع الاتصالات، يصبح السؤال مشروعاً: من يدير فعلياً تدفق المعلومات إلى الجمهور؟ ومن يملك القدرة على إغراق الفضاء العام بسردية واحدة ومنحها أفضلية تقنية ومالية؟ وعلى حساب أيّ سرديات أخرى؟

لبنان، الذي ما زال يتخبّط في تحديد موقعه بين الشرق والغرب، يجد نفسه اليوم أمام اختبار جديد لسيادته في المجال الأكثر هشاشة: السيادة المعلوماتية. من حقّ الدولة اللبنانية أن تعقد شراكات وأن تستقطب استثمارات في قطاع الاتصالات، ومن حق الطلاب أن يستفيدوا من برامج تبادل ومنح، لكن كذلك من حق اللبنانيين أن يعرفوا حدود هذه الشراكات: ما الذي يُمنح في المقابل؟ وأيّ ثمن سيدفع في ميزان التوازنات الداخلية والخارجية؟

إذا استُخدمت "معاناة" الأوكرانيين لتأسيس ماكينة خطابية تعمل من بيروت في خدمة محور دولي واحد بالتعاون مع قوى سياسية لبنانية منحازة بالكامل لهذا المحور، فنحن لا نكون أمام تضامن أخلاقي مع شعب يرزح تحت الحرب، بل أمام انخراط إضافي في لعبة محاور تُدار من الخارج وتُنفَّذ على أرض بلد لم يخرج بعد من حروبه الخاصة.

هنا يتجاوز السؤال أوكرانيا وروسيا. المسألة تتعلق بقرار لبناني بسيط ومصيري في آن: هل يبقى البلد مجرد ساحة مفتوحة لكل مشاريع النفوذ الناعم والخشن، أم يجرؤ أخيراً على رسم خطوط حُمر تحفظ له حقّه في تعدد السرديات واستقلال الفضاء المعلوماتي، قبل أن يتحول قطاع الاتصالات نفسه إلى معبر إجباري لصوت واحد يقرّر الآخرون نبرته ومحتواه وتوقيته؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.