أيّ كاتبٍ مسرحيّ يشعر بسعادة لا تشبه أي شعور آخر عندما يرى ما كتبه يتحوّل إلى حياة فوق خشبة المسرح، فالمسرح بالنسبة له ليس مجرد منصة تُضاء، بل هو فضاء تتحرك فيه الأحداث التي خطّها بيده وتتنفّس فيه الشخصيات التي ابتكرها في لحظة إلهام، ويتردد عليه الحوار الذي صاغه بعناية كمن ينحت جملة من الضوء، إن لحظة مشاهدة النص وهو يتحوّل من كلمات ساكنة على الورق إلى حركة وصوت وانفعال هي لحظة ميلاد ثانية للعمل، بل ميلاد جديد للكاتب نفسه، يقف في زاوية المسرح أو في مقعده بين الجمهور، لكنه في الحقيقة يقف داخل عالمه الخاص الذي خرج من بين سطوره، يشعر بأن أفكاره استعادت لحمها ودمها، وأن شخوصه لم تعد حبيسة المخيلة بل صارت تواجه الجمهور، تحاورهم وتستفزّ مشاعرهم وتترك أثرها فيهم، ويتضاعف هذا الفرح حين يرى الممثلين يتملّكون شخصياته، يضيفون إليها ظلالًا جديدة، ويكشفون عن أعماق ربما لم يدركها هو أثناء الكتابة، فالمسرح فن جماعي والكاتب المسرحي يعرف أن نصّه لا يكتمل إلا بجهود الآخرين، المخرج الذي يقرأ النص بعينه الخاصة، الممثل الذي يمنح الشخصية صوته وجسده، المصمّم الذي يبني العالم البصري، والموسيقى التي تمنح الصمت لغةً أخرى، ولذلك فالسعادة الحقيقية للكاتب ليست مجرد رؤية عمله على الخشبة، بل رؤية العمل وهو يتحوّل وينمو ويُعاد اكتشافه، يشعر بأن نصّه تجاوز حدود الورق وخرج إلى حياة يتقاسمها الجمهور لحظة بلحظة، هذا ما حدث لي تماماً عندما شاهدت المسرحية التي كتبتها (والناس نيام) مجسدةً على خشبة مسرح بيت الثقافة في بريدة مساء السبت الماضي، ضمن العروض المختارة لمهرجان الرياض للمسرح في دورته الثالثة هذا العام، لذا فإني ممتن لكل من أسهم في رؤية مسرحيتي النور فوق الخشبة، بدأً بالمخرج (محمد العتيبي) الذي صنع من الكلمات رؤية متكاملة والعمل لوحة يفيض منها الإبداع والدهشة، فشكراً له وشكراً للممثلين الذين منحوا الشخصيات أرواحهم وملامحهم وأصواتهم، كانوا أبطالاً حملوا ثقل العاطفة ومسؤولية المتعة، جاعلين الجمهور يمنحهم شهادة على احترافهم وإخلاصهم، ولا أنسى الشكر لفريق السينوغرافيا الذي رسم فضاء المسرح وبنى العوالم التي احتضنت الأحداث، كذلك الشكر للمصممين الذين حوّلوا الخشبة إلى حياة متكاملة بلا زمان وبلا مكان، الفضاء المسرحي الذي منح المشاهد سياقه البصري مع الإضاءة والأزياء، وشكراً للموسيقى التي نسجت خلف الحوار طبقات من الإحساس، فأصبحت اللحظات أكثر عمقًا وغنى من خلال الصوت، وشكراً للفريق الفني والإداري الذي عمل بصمت خلف الكواليس، هؤلاء هم الجنود المجهولون الذين يمسكون بزمام العرض دون أن يراهم أحد، وإلى كل يدٍ ساهمت وكل جهدٍ بذل وكل وقتٍ قُدّم أقول : شكراً لكم لقد منحتم والناس نيام في بريدة، حياة أخرى وأعدتم خلقها أمام الجمهور بشكل يليق بها ويزيدها جمالًا، إن النجاح الذي يُكتب للعمل هو نجاح مشترك، يحمل بصمة كل فرد منكم، وما وصل إلى الجمهور من تأثير ومتعة وتأمل لم يكن ليصل لولا إيمانكم بالنص، فأنتم الذين حولتم الكلمات الى عرض استحق التصفيق.

