: آخر تحديث

العلم وراء قطة إرفين شرودنغر

2
3
3

هذه هي قصة قط، وزجاجة سم، وذرة داخل صندوق. إذا تحلّلت الذرة لأي سبب كان يتم تفعيل آلية تُطلق السم، فيموت القط لا محالة. أما إذا لم تتحلل الذرة، فإن القط ينجو. هناك احتمال بنسبة 50 بالمئة أن تتحلل الذرة. إذن، كيف يمكن التنبؤ بحالة القط من دون فتح الصندوق؟ في البداية، يمكن فقط تقدير أنه في نصف الحالات التي نفتح فيها الصندوق للتأكد من توقعنا، سيكون القط حيّاً، وفي النصف الآخر سيكون ميتاً.

لكن المفاجأة الحقيقية لفيزياء الكم هي أنه حتى لحظة فتح الصندوق، تكون الذرة المشعة في حالة تراكب، أي أنها تتحلل ولا تتحلل في الوقت نفسه. وهذا يعني أن القط داخل الصندوق حي وميت معاً حتى تتم الملاحظة. وبالتالي، فإن فعل النظر هو ما يُجبر الطبيعة على اتخاذ القرار.

قطة شرودنغر هي التجربة الذهنية الشهيرة التي ابتكرها الفيزيائي النمساوي إرفين شرودنغر لتبسيط تعقيدات ميكانيكا الكم، الفرع من الفيزياء الذي يدرس الطبيعة على المقاييس الصغيرة جداً، والذي غيّر مجرى العلم إلى الأبد. في الماضي، كانت الفيزياء الكلاسيكية أو النيوتونية تحاول رسم صورة موضوعية وكاملة وواقعية للعالم. غير أنه مع بدايات القرن العشرين، اكتُشف أن المادة دون الذرية لا تُطيع قوانين نيوتن. فجأة، لم تعد القواعد القديمة قادرة على تفسير كيفية عمل الإلكترون.

ووفقاً لميكانيكا الكم، يمكن للجسيمات أن توجد في حالة تراكب لعدة حالات في الوقت نفسه، ولا تنهار هذه الاحتمالات إلى نتيجة واحدة إلا عند إجراء الملاحظة، حيث تتخذ الجسيمات وضعاً محدداً. يشبه الأمر مفتاحاً كهربائياً يمكن أن يكون في عالمنا إمّا في وضع التشغيل أو الإيقاف، لكن في عالم الكم يمكن أن يكون في الوضعين معاً. هذه الفرضية أثارت أسئلة فلسفية عميقة حول دور المراقب في تحديد الواقع، وهو ما يُعرف بمشكلة القياس.

كيف يمكن أن نجد يقينيات عن العالم إذا كانت هذه اليقينيات تتغير بمجرد أن نتحقق منها؟ إنها مفارقة، إذ إن النظرية التي تسعى لتفسير الواقع تقول إنه من المستحيل تفسيره بالكامل. بكلمات أخرى، ميكانيكا الكم بطبيعتها لا حتمية؛ بعض جوانب سلوك الجسيمات دون الذرية لا يمكن التنبؤ بها بدقة مطلقة. هناك أشياء لا يمكن رؤيتها، لأن رؤيتها نفسها تغيّرها.

وهذا يرتبط أيضاً بمبدأ اللايقين أو عدم التحديد، وهو من المفاهيم الأساسية في ميكانيكا الكم، وقد طرحه فيرنر هايزنبرغ عام 1927. يقول المبدأ إن قدرتنا على معرفة موقع الجسيم وسرعته بدقة في اللحظة نفسها محدودة جوهرياً. فكلما حاولنا قياس موقع الجسيم بدقة أكبر، قلّت دقة معرفتنا بسرعته، والعكس صحيح. وهذا يعني أن هناك حدوداً متأصلة في معرفتنا بالخواص الفيزيائية للجسيمات. ومع ذلك، فإن فكرة التراكب الكمومي تنطبق فقط على الجسيمات الأولية كالبروتونات والإلكترونات ولا تنطبق على العالم الواقعي الذي يُدركه الإنسان. ولهذا، فإن قطة شرودنغر تبقى مجرد تجربة فكرية مفيدة، وليست ممكنة في الواقع؛ القط سيكون حياً أو ميتاً، بصرف النظر عن فتح الصندوق أو إغلاقه.

لكن، ماذا لو لم يكن التراكب هو كل شيء؟ في منتصف القرن العشرين، ظهرت نظرية فلسفية مثيرة للجدل وكأنها من فيلم لكريستوفر نولان لحل مشكلة القياس ومفارقة شرودنغر، سُمّيت بتفسير العوالم المتعددة أو many-worlds hypothesis.

وفقاً لهذا التفسير، لا يحدث انهيار لدالة الموجة عند القياس، بل تتحقق جميع النتائج الممكنة لحدث كمومي، كل واحدة منها في فرع منفصل من الواقع. أي أن الكون يتشعب باستمرار إلى عوالم موازية، ويمثل كل عالم نتيجة مختلفة للحدث. في هذه العوالم المتوازية، يبقى كل شيء ثابتاً باستثناء نتيجة الحدث الكمومي المقاس. وبذلك، يتجنب هذا التفسير فكرة انهيار دالة الموجة ويحافظ على الطابع الحتمي لميكانيكا الكم. ومع أنه تفسير مثير وساحر، فإنه لا يزال افتراضياً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.