المصريون المنتقدون لعبد الناصر يلخصون مشاعرهم في جملة جامعة: «كان عايز يعمل نفسه زعيم». والحقيقة أن عبد الناصر، بالمعايير الموضوعية، وبالنظر إلى ما مثّله في مرحلة ما بعد الاستعمار، نال مكانة خاصة في قلوب كثيرين داخل مصر وخارجها. لكن هذا التعبير الشعبي الرافض للزعامة مرتبط بشيئين:
الأول ما جرّته تلك الزعامة على مصر من محددات كُنّا في غنى عنها. والثاني ما ارتبط بشعور الزعامة من قرارات وصفها منتقدوه بأنها «مغامرات حمقاء».
مقام الزعامة له طريقان: الأول هو الثقل الذي تضيفه أمة إلى محيطها. هذا طريق لا تنطبق عليه مدلولات جذر «زعم» في اللغة العربية، لأن مساهمة مجتمع ما في محيطه شيء راسخ، يستمد وزنه من ارتباط الآخرين به، لا من الادعاء ولا من انتزاع اعتراف الآخرين. سأستخدم لذلك الطريق لفظة الجدارة.
لم تكن مصر قبل عبد الناصر دولة ثرية، ولا قوة عسكرية. ما امتلكته بالفعل كان رصيداً ضخماً من الإسهام الفكري والفني والثقافي: صحافة رائدة، ومسرح، وسينما، ومناخ مُرَحِّب. تجد في مشهد من فيلم مصري في تلك الحقبة مسلماً ومسيحياً ويهودياً ودرزياً. هذا الخليط هو ما منح مصر وزنها الإقليمي.
على هذا الرصيد صعد عبد الناصر. وعلى خلاف سابقيه من القادة الذين اهتموا بطريق الجدارة، اختار هو الطريق الثاني، طريق الزعامة: إعلان نفسه، واستدراج الآخرين إلى مبايعته في هذا المقام.
لكن الزعامة الناصرية - التي قامت على كتف الجدارة - قوّضت مقومات هذه الجدارة من حيث لا تدري. فرضت خطأً مفتعلاً للهوية الوطنية، وللعلاقة بين الطبقات، وللرؤية الاقتصادية، وللعمل والإدارة، وللتحالفات الإقليمية والعالمية. كلها انعكاس لشخص الزعيم، الذي ادعت دعايته أنه هو من «خلاكي زعيمة».
يعارض البعض هذا الانتقاد للحقبة الناصرية بحجة أن الفنون المصرية في الخمسينات والستينات كانت في أوجها. تلك غفلة عن مسار التغيرات الاجتماعية. ما حدث من إنتاج فني وأدبي في تلك السنوات كان استمراراً بالقصور الذاتي. نفذه مواليد الحقبة السابقة وثمرة تعليمها. وحين سنحت الفرصة لفنانين كبار أن يتحدثوا بعد رحيله أشاروا إلى حجم التجريف والأجواء المضادة التي عملوا فيها.
مواليد سنوات الزعيم، وبشكل أكبر ثمرة سياساته وتعليمه، لم يحافظوا على المنحنى البياني للجدارة الثقافية المصرية. أفرزوا ظاهرة «الشُّلَلية الثقافية»: لكي يضمنوا استمرار منهج الصوت الواحد.
والجدارة الثقافية، تاريخياً، أصعب تحقيقاً من الهيمنة السياسية إن قسناها بالفترة الزمنية اللازمة لتحقيقها، وإن كانتا عادة مرتبطتين.
في الصراع الروماني - اليوناني تحققت الهيمنة العسكرية للرومان قبل أن تتحقق لهم الجدارة الثقافية. وفي النهضة الأوروبية من عصور الظلام حدث العكس: سبقت الجدارة الثقافية للأمم الصاعدة هيمنتها السياسية.
ويمكن، ببعد النظر، توقع القانون الذي يحكم هذه الأسبقية. في نهايات العصر البرونزي ارتبط التطور التكنولوجي بالحديد والقوة العضلية؛ فأعطى ميزة لأمم فتية: هيمنة عسكرية تسبق الهيمنة الثقافية. وتكرر الأمر نفسه مع البارود لصالح إمبراطورية البارود العثمانية في شرق أوروبا وحوض المتوسط.
في حين ارتبط الانتقال من عصور الظلام إلى التنوير والنهضة في غرب أوروبا بالمطبعة والتجارة والترحال، ثم بالثورة الصناعية التي ربطت التكنولوجيا بالاقتصاد والإدارة، فسبقت الثورة الثقافية الهيمنة العسكرية.
وهنا يجب أن نسأل: هل يفيدنا في الحاضر النظر إلى التاريخ وفهم ديناميكياته؟ وهل يفيدنا النظر في سبل الزعامة؟
بالتأكيد. فهذه قيمة التعلم من التجربة في صناعة المستقبل.
بداية، ليس المهم أن تكون زعيماً، بل أن تكون جديراً بما تضيفه أمتك إلى محيطها. ما بعد ذلك يحدث تلقائياً.
وثانياً، الجدارة تعتمد على فهم العصر ومواكبته. التطور الحالي يعتمد على الجودة النوعية القادرة على البروز بين الكثرة: سلاح أكثر ذكاءً، وثقافة أكثر تنافسية. وهذا شيء لا تحققه إلا الكفاءات المميزة، وتلك لا تظهر بالقدر المطلوب إلا في بيئة تنافسية مفتوحة.
طريق الخمسينات والستينات إلى الزعامة مسدود مسدود مسدود. السؤال هو الجدارة.

