"أنا لستُ صانع قرار...
أنا جندي في جيش سلمان بن عبدالعزيز ومحمد بن سلمان."
بهذه العبارة الواضحة والصادقة، لخّص معالي وزير الدولة عادل الجبير فلسفة العمل المؤسسي في دولة يلتزم قادتها ومنسوبوها بانضباطية عالية وروح فريق واحدة. لم تكن هذه الإجابة مجرّد تواضع، بل كانت إعلانًا عن نضج سياسي ومؤسسي، يضع النقاط على الحروف في الفرق الجوهري بين دور "صانع الرأي" ومسؤولية "صانع القرار".
من خلال تجربتي في ميدانين مختلفين – كعضو في مجلس الشورى، وكسفير للمملكة في المحافل الدولية – أدركتُ أن خلط هذين المفهومين يؤدّي إلى تشويش في المسؤولية وانزياح في الأداء، بينما وضعهما في إطارهما الصحيح يبني دولة قوية متماسكة.
فمن هو صانع الرأي، ومن هو صانع القرار؟
-
صانع الرأي: سواء كان مفكرًا، أو إعلاميًّا، أو عضو برلمان، فهو محرّك الضمير المجتمعي ومُوقِد بوصلة النقاش. مهمّته الأساسية هي التحليل، والتعبير، ونقاش الأفكار، وعكس تطلعات وهموم المجتمع. دوره حيوي في إثراء الساحة الفكرية وطرح البدائل. وهو صوت المجتمع وتحولاته، ومصدر إثراء للنقاش العام. هذا الدور بالغ الأهمية في تشكيل البيئة الفكرية التي تُبنى عليها السياسات.
-
صانع القرار: في الموقع التنفيذي، هو ربّان السفينة. يحمل على عاتقه عبء الاختيار من بين تلك البدائل، مستندًا إلى المصلحة العليا للدولة ورؤيتها الاستراتيجية الشاملة. قراره هو المحصّلة النهائية التي تَزِن جميع الآراء والمعطيات.
علماء السياسة يوضّحون أن المسؤول التنفيذي يعمل داخل منظومة محدّدة، وليست له حرية رأي مطلقة في القرارات الرسمية. والخلط بين هاتين الوظيفتين يؤدّي غالبًا إلى سوء فهم لطبيعة السلطة ومسؤولياتها.
مجلس الشورى: حيث تمتزج هموم المواطن برؤية الدولة
عندما تشرفتُ بعضوية مجلس الشورى، كان هاجسي الأول أن أكون صوتًا أمينًا لشرائح المجتمع، أنقل همومهم وأعكس تطلعاتهم. لم أكن أتصوّر نفسي "صانع قرار" تنفيذيًّا، بل كنتُ "صانع رأي مؤسسي"، أسعى لتغذية عملية صنع القرار بآراء مستمدة من صلب الواقع.
كانت توصيات المجلس تمثل خلاصة حوار مجتمعي، تُقدَّم كمواد استشارية بين يدي صانع القرار النهائي. وكنتُ أدرك تمامًا أن دوري هو صناعة الرأي المؤسسي، لا صناعة القرار التنفيذي. فقد كنت أعبّر تحت القبة عن رأيي المهني والفكري، وأحمل صوت شريحة واسعة من المواطنين، وأطرح مقترحات وتوصيات تُرفع لولي الأمر باعتبارها "مادة استشارية" داعمة لاتخاذ القرار، لا قرارًا بحد ذاته.
من هنا كان المعيار واضحًا: عضو الشورى ممثلٌ للرأي العام، لا ممثلًا للقرار الرسمي.
درس عملي من الشيخ محمد بن جبير
من المواقف التي رسّخت لديّ هذا الفرق، زيارة رسمية لمجلس الشورى إلى رومانيا، برئاسة الشيخ محمد بن جبير – رحمه الله – وقد كنتُ في الوفد السفير الوحيد والمتخصص أكاديميًا في العلاقات الدولية.
خلال الاجتماع مع الجانب الروماني، رغبتُ في التعليق أكثر من مرة، لكن الشيخ – ربما بحكم موقفي الناقد لبعض الملفات داخل المجلس – كان مترددًا في منحي الكلمة. وحين تحدثتُ أخيرًا، عرضتُ سياسة المملكة الخارجية بصورة متماسكة نالت استحسانه، حتى إنه أمسك بيدي بعد الاجتماع مثنيًا على ما قدمته.
أوضحتُ له حينها أن رأيي داخل مجلس الشورى شيء، وتمثيلي للدولة في الخارج شيء آخر تمامًا. داخل المجلس كنتُ أمارس دوري كصانع رأي، أمّا في الخارج فأنا أمثّل دولتي، لا نفسي. وهذه مسؤولية تتطلّب الانضباط والالتزام، بل أحيانًا شيئًا من "التجميل الدبلوماسي" دون أن يصل إلى حد التزييف، كما عبّر إحسان عبد القدوس بقوله الشهير: "أنا لا أكذب ولكنّي أتجمّل".
السفير: لسان الدولة لا لسان حاله
هنا تلتقي تجربتي التشريعية مع الدبلوماسية. فالسفير – وفق الأعراف الدولية ومواثيق العمل الخارجي – هو صوت الدولة وممثل موقفها الرسمي، وليس منبرًا لآرائه الشخصية.
فإن توافق رأيه مع سياسة دولته، فهذا هو الوضع الطبيعي. وإن اختلف رأيه معها، فالمسؤولية الأخلاقية تقتضي أن يلتزم بتوجيهات دولته بالكامل. لأن ممارسة العمل الرسمي ليست مجالًا لفرض الاقتناعات الشخصية، بل هي وظيفة سيادية تتقدّم فيها مصلحة الدولة على رأي الفرد.
ومن هنا أصل إلى مبدأ أؤمن به إيمانًا راسخًا: "إذا عجز أي مسؤول عن تمثيل رأي دولته بسبب معتقده الشخصي، فالشجاعة والأمانة تقتضيان أن يترك منصبه طوعًا، حفاظًا على هيبة الدولة وسيادة سياستها." الاستقالة في هذا المقام ليست هروبًا، بل هي ذروة الوفاء والانضباط المؤسسي.
الجنود في جيش الوطن
عبارة الوزير الجبير لم تكن تواضعًا بقدر ما كانت تأكيدًا على النضج المؤسسي. فالدولة القوية هي التي يدرك كل فرد فيها حدود دوره ومسؤوليته:
-
صانعو الرأي يُثرون الحلبة الفكرية، ويعلّقون على السياسات، ويقترحون البدائل.
-
صانعو القرار يعملون في إطار استراتيجية الدولة ورؤية قيادتها، ويتحمّلون نتائج القرار ومسؤوليته.
وعندما يتعارض الرأي الشخصي مع واجب التمثيل الرسمي، فإن "الاستقالة" تصبح أعلى درجات الوفاء للوطن واحترام المنصب.
هذا المبدأ هو ما عملتُ به طوال مسيرتي الوظيفية: أن أُمثّل دولتي كما هي، وأعبّر عن موقفها كما هو، بأفضل صورة ممكنة… دون مبالغة، ودون تجاوز الحقيقة، ودون أن أسمح لرأيي الشخصي أن يطغى على واجبي الوطني.

