: آخر تحديث

ماذا بقي من استقلال لبنان؟

2
2
2

في كل نوفمبر، تستيقظ الذاكرة على جرح نازف: عيد ننحني أمام ماضيه المجيد، بينما نحمل في قلوبنا ثقل استقلال مقطوع الأوصال بواقعنا الأليم. الاستقلال الذي تحقق عام 1943 لم يكن مجرد توقيع على ورق أو إعلان رسمي، بل كان دموع شعب وأحلام أجيال، إرادة تصنع وطنًا يحمي الحرية والكرامة. واليوم، وبعد ثمانية عقود، يبدو الاستقلال كجريح يئن في زوايا الوطن، محاصرًا بين انهيارات اقتصادية، وانقسام سياسي، وتبعية متجذرة تُرهق حياة المواطن كل صباح.

الاقتصاد اللبناني، ذلك العمود الفقري لأي دولة، انهار كبرج عاجي أمام عيون العالم. الليرة التي كانت رمزًا للسيادة الوطنية فقدت أكثر من 95 بالمئة من قيمتها، والفقراء أصبحوا الأكثر غربة في وطنهم، يعيشون بين انتظار معونة يومية وأمل سراب بعيد. الكهرباء والدواء والوقود، كل شيء أصبح رهينة الأسواق العالمية والدولار الأميركي، وتحولت الدولة إلى كيان يعتمد على رحمة الخارج، بينما المواطن اللبناني يعيد حساباته يوميًا عن القدرة على البقاء.

السياسة ليست أفضل حالًا؛ فالطبقة الحاكمة لم تعد مجرد وسيط للتدخلات الخارجية، بل أصبحت شريكًا عضويًا في تفريغ السيادة من مضمونها، عبر تحالفات تعيد إنتاج التبعية بصيغ "شرعنة" جديدة. تشكيل الحكومات بات لعبة أضداد طائفية، والقوانين تُقرّ وتُلغى وفق مصالح ضيقة، وليس وفق إرادة وطنية حرة. بينما كان استقلال 1943 بداية لقرار سيادي، صار القرار اللبناني اليوم رهينًا لمصالح خارجية، تتجسد في تحالفات محلية تعيد إنتاج الهيمنة على الشعب بطريقة جديدة، أكثر دهاءً وأكثر ألمًا.

الأزمة الأخيرة في قطاع الطاقة تظهر هشاشة الدولة بأوضح صورة. اتفاقيات استيراد الكهرباء والغاز من الخارج أصبحت مطلبًا يوميًا لتفادي الانهيار، أي مشروع وطني يتحول إلى مفاوضات دولية معقدة، ويصبح المواطن رهينة للقرار غير الوطني، كأنه شاهد على دولة لا تصنع حتى الحد الأدنى من رفاهيته.

على المستوى الاجتماعي، موجة الهجرة للشباب هي مرآة الواقع. اللبنانيون يرحلون بحثًا عن فرصة للبقاء في كرامة، تاركين وراءهم وطنًا يئن تحت وطأة تبعية اقتصادية وسياسية متعاظمة. الاستقلال السياسي وحده لم يعد كافيًا؛ يجب أن يقترن باستقلال اقتصادي واجتماعي، وإلا فإن الوطن سيبقى مجرد ذكرى متعبة على حواف التاريخ.

ومع كل ذلك، يبقى هناك شعاع ضوء في قلب الظلام: الاحتجاجات الشعبية والمبادرات المدنية، الحركات الثقافية والفنية، كلها دلائل على أن روح الاستقلال لم تمت بعد. اللبنانيون الذين يصرون على النضال في الشارع، على الثقافة، وعلى السياسة، هم الضمانة الحقيقية لحياة الاستقلال، بالرغم من كل الانكسارات اليومية.

الثقافة اللبنانية تشكل خط دفاع آخر؛ فهي تحافظ على الهوية الوطنية من خلال الفن، الأدب، المسرح، والمبادرات الشبابية، وتثبت أن لبنان قادر على الصمود والابتكار بالرغم من كل القيود الاقتصادية والسياسية. الوطن كسفينة في عاصفة، لكنها لا تغرق طالما هناك من يمسك بدفته، ويصر على الإبحار بالرغم من الرياح العاتية.

الاستقلال اليوم يبدو متناقضًا بين الماضي المشرق والحاضر المؤلم. الحرية الاقتصادية والسياسية محدودة، والقرارات مصوغة ضمن أطر خارجية، فتتحول ذكرى الاستقلال إلى سؤال وجداني يطرح نفسه على كل لبناني: هل حقًا نعيش حرية أو مجرد وهم؟

ولكن هناك ما يبعث الأمل: هذه الأزمة العميقة تلد وعيًا جديدًا؛ فجيل الانتفاضات الأخيرة لم يعد يرى في الاستقلال مجرد طقوس، بل مشروع تحرر يومي من هيمنة النظام الطائفي والتبعية الاقتصادية. المواطن الذي يشارك، الذي يبتكر، الذي يصر على الكرامة، هو من يصنع الاستقلال الحقيقي.

أمام لبنان اليوم مساران: إما الاستمرار في الانحدار نحو فقدان كامل للسيادة في ظل استسلام النخبة الحاكمة، أو لحظة صحوة تاريخية، حيث يتحول اليأس إلى طاقة تغييرية تعيد تعريف معنى الاستقلال في القرن الحادي والعشرين. الاستقلال الحقيقي يبدأ عندما يعود القرار إلى الشارع، لا إلى الصالونات المغلقة، عندما تصبح إرادة الحياة لدى اللبنانيين أقوى من كل آلات الانهيار.

في النهاية، لبنان يظل مرآة لتاريخه ومستقبله معًا، جرحًا ونورًا، ألمًا وأملًا. ذكرى الاستقلال تتجدد في كل احتفال، لكن قيمته الحقيقية تقاس بمدى قدرة اللبنانيين على استعادة سيادتهم، وضمان حقوقهم، وبناء دولة تجعل المواطن يشعر بالأمان والكرامة كما حلم أجداده منذ عام 1943. فالوطن لا يعيش إلا بإرادة أبنائه، والاستقلال لا يتحقق إلا حين يتنفس الشعب الحرية في كل صباح، ويتحول الحلم إلى واقع ملموس يعيشه كل لبناني ويحتفل به بقلب هادئ وروح ثابتة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.