عودة السوريين إلى نظام حكم مركزي بعد سقوط حكم الأسد إشكالية سياسية خلقت واقعاً أمنياً معقداً نتجت عن انتهاكات جسيمة ارتكبتها سلطة الجولاني، التي انتهجت سياسة الإخضاع القسري، بحكم طبيعتها الأيديولوجية المتطرفة.
لم تُدرك هذه السلطة أن سقوط الأسد بالنسبة إلى أحرار سوريا ليس مجرد تحوّل سياسي، بل نهاية لفكرة الاستبداد ذاتها، ونهاية كل ما يتصل بها سياسياً وأمنياً واقتصادياً.
في سوريا، كانت المركزية ذاتها وعاء احتضن الاستبداد الأسدي، ووفّر له آليات التحكّم برقاب السوريين؛ كما شكّلت المركزية العامل الأساس في انهيار منظومة الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ لذلك، ارتبطت فكرة المركزية هذه بالطغيان والقمع والحرمان في الوعي الجمعي السوري.
بالرغم من كل ذلك، كان السوريون بمختلف مكوّناتهم مستعدين للتعايش مجدداً مع فكرة النظام السياسي المركزي بعيداً عن الاستبداد، وضمن دستور مدني جديد يكفل كافة حقوقهم الفكرية والسياسية والاقتصادية؛ لكن سلطة الجولاني، التي وصلت إلى الحكم بقرار دولي، عادت لتكريس منهج الاستبداد الأسدي مجدداً، وكأن مركزيتها أداة للانتقام من السوريين؛ عادت لفرض الإخضاع القسري والاستهزاء بمكسب الحرية الذي ناله الشعب المعذّب طوال 50 عاماً.
لقد ظنّت أن وصولها بدعم دولي هو ضوء أخضر لإعادة الأحرار إلى القمع والترهيب.
من هنا، وبناء عليه، كان تفكيك مفهوم الدولة المركزية جزءاً من الخيارات الوجودية، وشرطاً رئيسياً لأي انتقال سياسي حقيقي؛ فبقاء المركزية يعني تثبيت الأسس ذاتها التي أفرزت عقوداً من الطغيان، مهما تبدلت الوجوه أو الشعارات.
لقد اختبر السوريون التسلّط في أقصى تجلّياته: تسلّط الطغيان الأسدي، وتسلّط الإرهاب الذي سرق الثورة؛ واليوم، بات الجميع مدركاً أن تكريس الصلاحيات بيد فئة واحدة، أياً تكن هويتها السياسية أو العقائدية، سيعيد تدوير منظومة القمع؛ وأن اختزال الدولة في مركز واحد إنما يعني إعادة تصنيع الاستبداد بورشة جديدة، وتحت مفاهيم الوحدة والشرعية وغيرها من المفاهيم التي ضاق السوريون بها ذرعاً لكونها حبيسة الخطابات فقط. لذا، فإن المطلب الأساسي اليوم بالنسبة إلى الأحرار من السوريين، ليس تغييراً في رأس هرم النظام فقط، بل إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع والنظام السياسي.
لقد كانت لحظة سقوط نظام الأسد بداية تحقيق حلم الثوار الحقيقيين في إنشاء نظام سياسي مدني، ودستور مدني يكفل تداول السلطة؛ كان ذلك حلماً طال انتظاره للتخلّص من حكم الفرد، وتكريس سيادة الشعب، وإنهاء سطوة الأجهزة الأمنية، ووقف الفساد المالي. لكن سرعان ما اختُطف الحلم على أيدي من ادّعوا أنهم يُمثلون الثورة؛ وتفاجأ السوريون بتنظيم مسلّح – لم يدّخر جهداً في معاونة الأسد على قتلهم – يتربع على عرش السلطة، ويتكلم باسم الثورة والثوار.
هذا التنظيم الذي ادعى أربابه الانتساب لثورة السوريين متهم اليوم بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية. لم يترك المحسوبون عليه صنفاً من صنوف الإجرام لم يمارسوه باسم التحرير وشعارات الحفاظ على الدولة: حرق ونهب وقتل جماعي وإعدامات ميدانية بحق أبناء الأرض الذين باتوا أمام خيار وجودي بالدفاع عن بقائهم، أو التنازل أمام إرهاب واستبداد جديد يهددهم بالفناء.
خيار أبناء الأرض الوجودي، الذي بات اليوم أساساً لكل خيار سياسي اتخذه أبناء الأرض تجاه مفهوم الدولة المركزية، إنما يقابله خيار وجودي أيضاً بالنسبة إلى سلطة العنف. حيث تُدرك هذه السلطة أن تفكيك مفهوم الدولة المركزية سيسقط وجودها كلياً ويكشف هشاشتها، ويهدد مشروعها السلطوي.
المركزية بالنسبة إلى هذه السلطة لم تعد خياراً سياسياً، بل آلية حماية ذاتية، وضمانة لعودة الحكم الأحادي الذي تسعى لتكريسه مجدداً.
جوقة الارتزاق التابعة للسلطة لم تدّخر جهداً لتبرير تجاوزاتها، والترويج لها على أنها مدعومة دولياً.
لم تدّخر جهداً في توجيه الاتهامات لأبناء الأرض على أنهم سبب رئيسي في تفتيت سوريا جيوسياسياً، متناسين أن خيار السوريين الأحرار جميعاً كان موحّداً قبل المجازر المرتكبة بحقهم، ومتناسين أن السلطة لم تدّخر جهداً في التنازل عن السيادة وتقديم الارتهانات فقط للبقاء في السلطة.
السوريون الأصلاء اليوم أمام صراع وجودي مع السلطة؛ صراع يتمترس فيه الأحرار عند حريتهم، متمسكين بخيار وجودهم، ويرفضون مطلقاً العودة إلى منطق الطغيان وإنتاج دولة مغلقة تعيد منهج قمعهم.
وبين هذين الخيارين، سيبقى الثابتون على مبادئهم كالطود، لا يمكن أن يُستدرجوا مرة أخرى إلى النسخة الجديدة من الاستبداد الذي خلع عباءة التطرف وارتدى بدلة رسمية تليق بارتهانه أمام الخارج.
بالنسبة إلى هؤلاء الأحرار، لم تكن الثورة الحقيقية ضد شخص، بل ضد فكرة ونهج الاستبداد والطغيان. وطالما أن الثورة فكرة؛ فالفكرة لا تموت.

