: آخر تحديث

يا قضاة تريَّثوا

0
0
0

المقصد من كلمة "قضاة" الواردة في عنوان هذه المقالة، ليس مقصورًا على قضاة المحاكم الذين يصدرون صكوك الأحكام القضائية المعروفة، وإنما يشمل كلَّ من يمارس الحكم على غيره من البشر.

كالمدراء الذين يحكمون على الموظفين الذين يعملون تحت إدارتهم من نواحٍ متعددة، أو الأساتذة الذين يصدرون الأحكام على تصرفات وسلوكيات التلاميذ، أو الآباء والأمهات الذين يحكمون في الكثير من الأحوال والمواقف التي تحصل داخل الأسر، أو المحققين في مراكز الشرط والنيابات وغيرها، ويشمل أيضاً الأصدقاء والزملاء في تعاملاتهم وعلاقاتهم المختلفة التي تجعلهم يصدرون الأحكام ضد بعضهم باستمرار إلخ.

ببساطة: المقصد من كلمة قضاة هنا، يشمل كلَّ إنسان يريد أن يصدر حكمًا على أي قول أو فعل صدر من إنسان آخر.

الكثير من القضاة – وفق المقصد الذي تمّ إيضاحه – يطبقون على جميع الناس نفس المعايير، أو الضوابط، أو المقاييس، أو المواد القانونية، أو الأدلة الشرعية، أو الأعراف الاجتماعية، أو غيرها من المرجعيات التي يبنون عليها أحكامهم.

إنّ الكثير من الناس حين يحكمون على شخص صدر منه قول أو فعل يرونه خاطئاً، يركّزون على التصرّف أو السلوك نفسه، ويسلطون المجهر عليه ويكبرونه ويبرزونه، ويندفعون بعواطفهم الجياشة ضد الشخص الذي قال ما قال أو فعل ما فعل، دون النظر بشمولية وتوازن إلى جوانب الموضوع الأخرى، وملابساته وظروفه وخفاياه التي قد تكون خلف الكواليس.

وهذا في نظري خلل ظاهر وإشكال كبير يجلب الكثير من الأضرار والأخطار، فالأحوال تختلف، والظروف تتفاوت، والدوافع والمبررات تتنوّع وتتشكّل. والاستعجال في الحكم على الآخر دون تأمل شامل، كم تسبب في قطع أو إضعاف علاقات جميلة كانت تربط أصدقاء أو زملاء أو أقارب أو غيرهم.

عزيزي القاضي: قبل أن تُسقط مادة قانونية أو نظامًا معيناً على من ثبتت لديك إدانته، وقبل أن تحكم على إنسان أنه سيء ويستحق كذا وكذا: تأمل في ظروفه وأحواله والملابسات التي أحاطت بما ارتكبه، وفي دوافعه أيضاً، وهذه الأخيرة – أي الدوافع – مهمة جداً في رأيي.

الدوافع وما أدراك ما الدوافع. في اعتقادي: لو نظر كل إنسان بموضوعية وهدوء وضمير وإنسانية، إلى الدافع الذي دفع من ارتكب جرمًا أو خطأ أو ذنباً، لربما تغيّر حكمه عليه تغيرًا جذريًا أو نسبيًا.

إنّ الاجتهاد في تأمل جميع المعطيات، والوصول إلى معرفة الدافع –الذي قد يكون خفياً أحياناً– وفي تخليص المذنب منه، ربما يكون أفضل وأهم وأنبل من الحكم على المذنب بحكم قاسٍ أو إدانة شديدة مؤلمة؛ لأنّ اكتشاف الدوافع وتخليص المذنب منها قد يضمن عدم تكرار الخطأ. أمّا العقوبة أو الحكم القاسي دون تأمل الخفايا والنوايا والمسببات والمبررات، قد يجعل المخطئ يصر على الخطأ ويكرره ويزيد منه.

ولذلك كله وغيره، كان العدل أرفع درجة من المساواة، فالمساواة المطلقة قد تجر الكثير من الظلم؛ لأنها لا تراعي الفروقات بين الناس، والفروقات كثيرة ومتنوعة، والقاضي الذي يطبق نصوص القانون بحذافيرها –بمساواة تامة– دون النظر إلى روح القانون وغاياته، قد يكون خطؤه أكثر من صوابه، ولله در "غوستاف لوبون" ما أجمل قوله: "تطوّر مقتضيات وظروف الحياة أسرع من تطور القوانين، فعلى القضاء أن يكمل النقص، ويجمع بين النص والمصلحة".

ولذلك وردت عن القانونيين أقوال مفادها أنّ المساواة قد تكون ظالمة أحياناً، فالمساواة المطلقة تؤدي إلى عدم العدل مع بعض الأفراد الذين لديهم احتياجات خاصة أو فروقات فردية أو ظروف معينة تتطلب معاملة مختلفة.

لا أريد أن أبالغ كثيراً؛ ولكني سأقول: في بعض الأحيان قد يؤدي تغييرك لزاوية أو جهة نظرك للموضوع إلى انعكاس الحكم تمامًا، فيصبح المذنب سابقاً – وفق زاوية نظرك الأولى – بريئاً وربما محسناً بعد تغيير طريقة النظر، وبعد تأمل الموضوع من جوانب أخرى.

ومن المهم أيضاً قبل أن نحكم على أي شخص في أي موقف، أن نستشعر –من ناحية أولى– أنّ الضرورات قد تبيح بعض المحظورات أحياناً وفق حدود معينة، وأنّ لكل فعل ردة فعل من ناحية ثانية، وأنّ الحكم الصحيح العادل لا يتم إلا بالسماع من جميع الأطراف، والتأمل الدقيق في جميع الملابسات.

وهناك طريقة جميلة مجربة، وهي أن يقوم الإنسان قبل الحكم على غيره في أي موقف، بتقمّص حال الشخص الذي سيحكم عليه. ببساطة: يضع نفسه مكانه، بكل ما يحيط بذلك المكان ويؤثر فيه من أسباب وظروف وملابسات ومعطيات.

وختاماً: إن أعجب بعضنا قول مونتسكيو: "القانون يجب أن يكون مثل الموت الذي لا يستثني أحدًا"، فيجب أن لا نغفل –في المقابل– أقوالاً من قبيل القول المنسوب لكونفوشيوس: "إذا قدت الناس وفق قوانين إجبارية وهددتهم بالعقاب، فإنهم سيحاولون اتقاء العقاب، ولكن لن يتكوّن لديهم الشعور بالشرف والخجل. أما إذا قدتهم بالفضيلة، ونظمت شؤونهم بالتربية، فإن علاقتهم ستقوم على أساس من الشرف".


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.