قبل ثلاثة عقود أضاف الأستاذ غسان تويني إلى متاعب الصحافة وتعامُله بوصفه ناشراً لصحيفة «النهار» أورثها إليه والده فأورثها بدوره إلى الابن ثم الحفيدة، مع الأزمات السياسية اللبنانية، عملاً توثيقياً حول استقلال لبنان الذي بات في سن الشيخوخة ورغم ذلك لا رعاية على النحو المأمول من بني قومه. ودليلاً على ذلك أن الأزمات السياسية تتوالى من دون استراحات عابرة، أزمة تورث أزمة فأزمات. وما يعيشه لبنان حاضراً يؤكد ذلك مع فارق أن الزمن السياسي اللبناني كان موسوماً بقامات تمارس السياسة بأصول وعندما تشتد الأزمة يقرر أطرافها موجب وضْع صيغة توافُق لها.
ذاك العمل التوثيقي عبارة عن مجلد يتضمن عشرات الصور والوثائق التاريخية لحقبة لبنان الرازح تحت الانتداب الفرنسي ثم المستقل لاحقاً. وفي ذلك الزمن كان نواف سلام في مطلع شبابه آملاً في تحضير يحظى بوظيفة تناسب كفاءته ثم تشاء الأقدار أن يشركه غسان تويني في إنجاز العمل التوثيقي إلى جانب فارس ساسين، ويتم إنجاز العمل المزوَّد بعشرات الصور والوثائق النادرة للمرحلتين ورجالها؛ مرحلة النضال من أجل نيل الاستقلال، ومرحلة ما بعد شروق تلك النعمة وغياب الزمن الذي كان فيه الجنرال كاترو يمارس في الميدان السياسي اللبناني ما بات يمارسه غازي كنعان في لبنان تنفيذاً لنوازع نظام حافظ الأسد، الذي كان يروم تحقيق تجربة وحدوية سورية - لبنانية تصمد نقيض الجمهورية العربية المتحدة بين سوريا الرئيس شكري القوتلي ورجل الاستخبارات المتمكن عبد الحميد السراج، ومصر عبد الناصر وهي صيغة ما لبثت أن انتهت بانقلاب قام به ضباط في الجيش السوري.
وما يلفت في مسألة استقلال لبنان وكانت من ضِمن مدونات كتاب غسان تويني بالتعاون مع الأرثوذكسي فارس ساسين والسُّني نواف سلام (الرئيس الحالي للحكومة)، موقف الرئيس الأميركي فرنكلين روزفلت في رسالة بعث بها إلى الرئيس ألفرد نقاش تتضمن «التعاطف مع أماني الشعب اللبناني في الاستقلال التام، انتظاراً لليوم الذي يتمكن فيه أن يمارس، في ظل السلام، ممارسة تامة ذلك الاستقلال من دون أن تحد منه ظروف الحرب القاهرة».
في الثالث والعشرين من نوفمبر (تشرين الثاني) 2025 يكون عُمْر الاستقلال بات في الثانية والثمانين من العمر، ومع ذلك لم يُعطَ حقه من الذين حكموا ومِن أحزاب لبنان التي توالدت وكثرت، ومِن بعض اللاعبين والمتلاعبين في مصائر الأوطان. بل حتى بسبب المناكفات والصراعات العبثية لم يُتح للبنانيين الحادبين على الوطن الاحتفال بالذكرى الوطنية كما يحتفل السعوديون بيومهم الوطني، ويحتفل الفرنسيون حكومة وشعباً وجيشاً بذكرى الرابع عشر من يوليو (تموز). ويقال الشيء نفسه عن دول وشعوب أُخرى.
وما يلفت الانتباه أيضاً هو استباق بطريرك الطائفة المارونية (طائفة رئيس الجمهورية) الذكرى الجديدة للاستقلال بإحياء دعوته إلى اعتماد الحياد حلاً يستقر الوطن بموجبه، وهي دعوة سبق أن نادى بها قبْل سنتين إلاَّ أن التفاعل معها لم يكن على النحو المطلوب، وربما من أجْل ذلك يجدد التذكير بما اقترحه ويقول في عظته الجديدة: «لقد وعد الرئيس جوزيف عون في خطاب القَسَم بممارسة الحياد الإيجابي فارتاح معظم المواطنين كون الحياد لا شرق ولا غرب يحيي الوحدة الوطنية ويُومِّن الاستقرار والازدهار والنمو الاقتصادي ويساهم في السلام العالمي، والدليل حضور سويسرا، المحايدة، العالمي القوي على الساحة السياسية والاقتصادية». ومع أن البطريرك متمسك برؤيته هذه، فإن التنفيذ لا يبدو بالأمر اليسير بسبب كثرة الانتماءات في الوسط السياسي، بعضهم لدولة كبرى وبعض آخر لدولة كبرى أُخرى، وكثرة أحزاب أيضاً هواها ليس نقياً لبنانياً بما يكفي. مِن هنا فإن إقدام الحُكم في لبنان على طرْح فكرة الحياد برسم الاستفتاء من شأنه أن يكون حلاً وعندها سيتضح المعدن اللبناني بمعنى هل يكون آخذاً بصيغة الحياد، أم رفضاً له. وعملية الاستفتاء مألوفة في الأزمات الصعبة التي تعيشها دول عدا تلك التي تصاغ نتائج الاستفتاء لمصلحة الحاكم، كما حدث في دول عربية كثيرة، التي تصل مفاعيل الأزمة بالنسبة إلى لبنان إلى حد أنه عندما تحل ذكرى وطنية عزيزة على الوجدان مثْل ذكرى عيد الاستقلال فإن أولياء الأمور والنزاعات يتصرفون كما لو أنها مناسبة عادية غير جديرة بإحياء ظروفها وغرْس مفاهيم الاستقلال في نفوس أجيال جديدة بحيث لا تصل الحال بهم على نحو ما هي عليه حال الأقدمين.
لعل لبنان السياسي والحزبي يهتدي وقد خلدت العصبيات المذهبية إلى السكينة، ويحتفل الجميع بالذكرى الجديدة للعيد الوطني وبأسلوب غير أحادي على نحو احتفالات «حزب الله» بمناسبات روحية أو كشفية. وفي هذه الحال يصبح اللبنانيون كلهم للوطن للعلى والعَلَم.

