مثّلت الزيارة التاريخية لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لواشنطن فصلاً جديداً من العلاقة بين البلدين. الطامحون لتخريب هذه العلاقة التاريخية والتحالف الاستراتيجي بينهما غير مسرورين هذه الأيام.
من الخطأ أن نشعر بالاستهداف أو نتخيل وجود مؤامرة، ولكن من الضروري التفكير بعقل بارد وهادئ. الساعون لتخريب العلاقة واضحون، ولهم أهداف معلنة. الموضوع ليس سراً، لكن الخطأ الذي يحدث هو أن هناك من ينجرف خلف الدعاية والسردية التي يروّجونها.
سعت الجماعات الإرهابية جاهدَة لتخريب هذه العلاقة. أسامة بن لادن مثلاً استهدفها عبر ارتكاب عملية مروّعة أشرك فيها سعوديين. لكنه لم يكن الوحيد؛ فالعمليات التي ضربت أوروبا أيضاً كانت تهدف إلى خلق حالة من الكراهية الدينية بهدف تسميم هذه العلاقة. كانت استراتيجية واضحة ولم تنجح في غايتها الشريرة.
الجماعات المتطرفة كذلك تسعى لتخريب العلاقة عبر الدعاية المستمرة. بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، قدّمت جماعات متطرفة في الغرب نفسها على أنها البديل المناسب، وتمثل الصورة الصحيحة لـ«الإسلام الديمقراطي» في مقابل «الإسلام الجامد». وبالطبع هذا غير صحيح؛ فهذه الجماعات الحركية هي منبع تنظيمات العنف، لكنها في الغرب تدّعي الليبرالية. تضع ابتسامات مزيفة، وترتدي ربطات عنق أنيقة، وتسيطر على مراكز وجمعيات بواجهات براقة. الهدف ليس دينياً بل سياسيّ.
وعندما قامت السعودية بإصلاحات جوهرية في الخطاب الديني ورسّخت الاعتدال والوسطية خلال السنوات الأخيرة، ماذا كان رد هذه الجماعات؟ هل أيّدت هذه الخطوات؟ بالطبع لا؛ بل فعلت العكس. هاجر معظم المتطرفين من الشرق إلى الغرب، بعد أن منعتهم السعودية ودول الخليج من ترويج خطاب الكراهية.
الأحزاب الطائفية، مثل «حزب الله» تسعى أيضاً لتخريب العلاقة بين الرياض وواشنطن. هم من يروّج دعاية «العمالة» و«الانبطاح» و«التبعية». أكاذيب مكررة؛ فالسعودية حليف استراتيجي لأميركا منذ 90 عاماً، مثل حلفائها في أوروبا وآسيا. تلتقي مصالحهم وأهدافهم في نظام دولي مستقر سياسياً ومنفتح اقتصادياً. لكن السعودية لم تتحالف مع الاتحاد السوفياتي في حينه، لأنها كانت تعارض الآيديولوجية الشيوعية سياسياً وثقافياً واقتصادياً. هذه التحالفات الدولية أمر طبيعي في النظام الدولي، لكنهم يحوّلونها إلى «عمالة وخضوع» بهدف تلطيخ العلاقة وتقويض الشرعية.
الأحزاب اليسارية تسعى كذلك لتخريب العلاقة. لا تزال تعيش في عالم الحرب الباردة وقواميس الإمبريالية والاستعمار. لم تستيقظ بعد من تلك الغيبوبة. الاستعمار انتهى منذ أكثر من نصف قرن، والصين التي كانت شيوعية أصبحت القطب الرأسمالي الأكبر بعد الولايات المتحدة. الخلاف بينها وبين واشنطن ليس آيديولوجياً، بل يتمحور حول الرقائق الإلكترونية والذكاء الاصطناعي.
تغرق هذه الجماعات –على اختلاف أشكالها– الفضاء بمثل هذه السرديات. ومن حسن حظ السعودية ودول الخليج أنها ركزت على الاقتصاد والتنمية ولم تغسل أدمغة شعوبها بمثل هذه الدعايات المضللة. هناك بالطبع من يروّج لها داخلياً ويعمل على «التثوير» (وكتبتُ عنهم مقالاً سابقاً بعنوان: «ثوريون في الخليج»). يعزّز هذا الخطاب مستخدماً مثلاً القضية الفلسطينية، التي هي قضية إنسانية عادلة، لكنها تحولت إلى ماكينة تُستخدم للتخوين والابتزاز.
والسؤال الآن: ما الهدف من تخريب هذه العلاقة؟ لماذا السعي المستمر لجرّ السعودية ودول الخليج إلى مواجهة مع أميركا والدول الغربية؟ نتذكّر أنه بعد تعرض قطر للهجوم الإسرائيلي، اشتغلت الدعاية بقوة، بهدف دفع الدوحة لقطع علاقتها بواشنطن، لكن الذي حدث كان العكس، وكان ذلك تصرفاً استراتيجياً ذكياً. والسعودية اليوم، كما أعلن ترمب، أكبر حليف رئيسي خارج «الناتو».
الجواب واضح: ليست هناك مؤامرة أو تخطيط سري. الهدف من تخريب العلاقة هو إضعاف هذه الدول عبر إضعاف تحالفاتها مع القوة الأكبر في العالم. هذه القوى تسعى لبسط هيمنتها في الشرق الأوسط، وتحويله إلى منطقة نفوذها؛ سياسياً منطقة تكون دولها ضعيفة وميليشياتها قوية، واقتصادياً منطقة معزولة عن الرأسمالية والتجارة الحرة، وثقافياً منطقة ينتشر فيها خطاب الكراهية والطائفية. منطقة ترتفع فيها الرايات السود والصفر بدلاً من منتديات الاستثمار والابتكار.
وكل ذلك لا يتحقق إلا عبر تخريب العلاقات الاستراتيجية مع أميركا والدول المتقدمة صناعياً وتقنياً. وبعد ذلك نستغرب: لماذا يغضبون إذا ما توطدت وتعمّقت هذه العلاقات؟

