: آخر تحديث

الموقف اللغوي بين النحو والبلاغة

0
0
0

سهام القحطاني

لا يُمكن إنكار تأثير الشفهية على الخطاب اللغوي للعربي قبل الإسلام والتي أوجدت تقنيات مواقفه اللغوية التفاعلية وهي «الصوت والإشارة والكلمة ولغة الجسد والعلامة الإعرابية». التقنيات تتحرك وفق دورها في صياغة الدلالة التي يستلزمها الموقف اللغوي التفاعلي، وفق ما يقتضي إنشاء الكلام وليس ما يستلزمه النظام اللغوي.

يقسم الجرجاني الكلام إلى ضربين: «ضرب تصل منه إلى الغرض باللفظ وحده»، النص الذي لا يستلزم المواقف اللغوية فلا يخالف نظام النحو،أو الفصاحة الشكلية الفارغة من أي موقف تفاعلي.

والضرب الثاني «لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضي موضوعه في اللغة، أي الخطاب الحاصل من المواقف اللغوية التفاعليَّة. كما يرى أن مخالفة اللفظ للدلالة لا تُفسد النحو ما دام المتكلم ملتزماً بالقواعد، لكن الأمر يختلف في البلاغة لوقوع الفساد في المعنى بمخالفة اللفظ للدلالة ومقصد المتكلم، فبلاغة القول تُقدم صحة اللفظ الدلالة والسياق قبل صحة اللفظ لقواعد النحو وليس لمعاني النحو.

استطاع الجرجاني أن يقدِّم «مصطلحاً» يربط بين الموقف اللغوي التفاعلي واقتضاء الدلالة والموضوع وهو مصطلح «معاني النحو»وهذا المصطلح أخرج النحو من جموده القاعدي إلى البعد التواصلي كموقف للمتكلم وكخطاب تفاعلي.

فعندما يشترط في بلاغة القول النحو فهو يقصد «توخي معاني النحو» فقواعد النحو ليست بقوانين، بل هي معان ودلالات في ذاتها وهذا الجديد الذي قدَّمه الجرجاني في نظرية النظم. أو كما أسمتها الدكتورة سناء «مديرية الربط».

وبذلك تختلف النظرة إلى المُنتج اللغوي للمتكلم بين البلاغة والنحو، فالنحو يربط فصاحة المنتج اللغوي بالتزامه بقواعد النحو دون الدلالة، وبذلك يُحذف أثر المتكلم كفاعل وجداني في صياغة الكلام، في حين تربط البلاغة فصاحة المنتج اللغوي بتحقق التناسب بين القول والدلالة، أي الأخذ في الاعتبار بتأثير المتكلم كفاعل وجداني وليس منفذاً للنظام النحوي في تشكيل خارطة الكلام التفاعليّة.

وهذا لا يعني أن البلاغة لا تهتم بالتزام القول بقواعد النحو، بل تهتم لكنها تُقدم شرط تحقق الدلالة على الالتزام قواعد النحو، وهذه المسألة تتضح ملياً في الأغراض البلاغية للتقديم والتأخير.

إن المنتج اللغوي للمتكلم هو حاصل تأثيرات الموقف التفاعلي وفق تأثيرات نفسية مخصوصة تستوجب ردة فعل تتناسب مع دلالة الموقف التي قد تتجاوز أو تحتال على سلطة قواعد النحو.

لقد أدرك البلاغيون العرب الأوائل ما توصل إليه كل من فردينان دوسوسير الذي فرق بين «اللغة والكلام».

أما تشومسكي فقد قسم الموقف اللغوي التواصلي إلى قسمين: الكفاية أو المقدرة اللغوية والأداء أو الإنجاز اللغوي للفرد.

ويقصد بالمقدرة اللغوية؛ مقدار ما يمتلكه المتكلم من قواعد لغته والتي تمكّنه من التعبير عن نفسه بصور مختلفة «المعاني النحوية، وقدرة المتكلم على توليد معاني جديدة، وقصد بالأداء أو الإنجاز اللغوي للفرد.

فهو يقصد أن تميز المتكلم في نشاطه اللغوي يعتمد على قدرته في تشكيل طريقته الخاصة في اللغة وفق مستلزمات متطلبات موقفه اللغوي التواصلي.

ولو عدنا إلى التراث العربي سنجد أن الجرجاني قد فطن إلى المقدرة اللغوية الخاصة بالمتكلم عبر مصطلحه «توخي المعاني النحوية» التي تتجلَّى في التعبير عن مواقف ذلك المتكلم التواصلية اللغوية وفق التأثيرات المحيطة بالمتكلم التي تشكِّل انفعاله اللغوي. وتقسيمه لنوعي الكلام.

وهنا نصل إلى «الكلام النفسي» الذي أشار إليه الجرجاني، والذي يقوم على أن الكلام هو حاصل تأثيرات نفسية للمتكلم تساهم في إنتاج الكلام وفق البعد النفسي لهذه التأثيرات.

وهذا يعيدنا إلى نظرية الصفر اللغوي بمراحلها، فقد أشار الجرجاني إلى أن الفكرة أو مجموع التأثيرات الذهنية والنفسية هي سابقة على النظم سواء في جانبه النحوي كمعان وليس قواعد أو التعبيري؛ تناسب اللفظ مع اقتضاء الدلالة والموضوع.

وبذلك نرى أن البلاغة تفوَّقت على النحو في مراعاة الموقف اللغوي للمتكلم من خلال برنامج لحماية المتكلم من تهمة فساد الفصاحة ونظامها النحوي.

برنامج يعتمد على تقديم أهمية الدلالة المناسبة للموضوع وحالة المتكلم وتوخي معاني النحو، ثلاثية أعطت بعداً جديداً للبلاغة تجلَّت آثارها فيما بعد في النظريات النقدية عند العرب الأوائل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد