منيرة العصيمي
ينكأُ الأدب جرحًا غائرًا، فنُدرك حينها أنه لم يُشفَ بعد. ثم نقول: ما خطب هذه الأقوال التي تحرثُ عمق جروحنا، ولا تسقيها بماء الشفاءِ، ولاتواريها بحفناتٍ من ترابِ الرحمة؟
لكن، هذا هو الأدبُ، لم يُوجد لأجل التشافي أو حتى الانبساط، بل ليوقظ فينا الأسئلةَ، ويواجهنا بإنسانيتنا الهشة. فـ «كلّ شيءٍ هادئ على الجبهة الغربية» لم يكن هادئًا أبدًا حيث كان رماد الحربِ وأشلاءُ الجنود، وأحلامُ الشبابِ مُلقاةٌ بين الجثث. تلك الطموحاتُ التي قد تبدو لنا صغيرةً، كانت عظيمة في نفوس هؤلاءِ اليافعين. حيث تمنّى ذلك اليافعُ لو وجد شغفهُ الحقيقي، وعاش حلمهُ الذي يكبر معه كلّما تقدّم في كل خطواتِ حياته.
وما خلّفته هذه الحروب من الكوارثِ الأخرى لم يكن أقلّ فداحة؛ إذ أنتجت نمطيةَ التفكير، ونسقيةَ العيش، وماديةَ الإنسان الذي وقف وجهًا لوجه أمام تلكَ الأسئلة الوجودية: ما معنى حياته؟ وماغاية وجوده؟ فلم يجد وسيلةً سوى أن يحيا الحياة الحسية البحتة، بينما تتبادر إلى ذهنه أسئلة الخلقِ والمعنى، دون أن يجد لها جوابًا مقنعًا.
ومن هنا، جاء الأدب الوجودي خير شاهدٍ على هذا القلق؛ فقد عرض الحرية، والمسؤولية جنبًا إلى جنب، لكنه كشف أيضًا عن تمرد الإنسان على مجتمعه. ففي الغريب لألبير كامو نرى «ميرسو» هذا الشاب الذي لا يأبه بمن حوله، ولا يشعر حتى بأنهُ مقيم في السجن بعد أن قتل أخ تلك السيدة العربية، وكأنه يضرب بكلّ محاكمةٍ عرضَ الحائط. وإن حاولنا أن نجد له مبرّرًا، فستلحُّ علينا الإجاباتُ المنطقية لتؤكد عبثيته واغترابه وانفصالهِ عن الواقع.
وفي المقابلة الأخيرة للطبيب النفسي «غابور ماتي» تحدّثَ عن حاله قبل أسابيع إذ لم يكن بخير، فبعض الجروح النفسية والعاطفية مازالت تؤلمه، رغم أنه في الحاديةِ والثمانين من عمره. وهذه الحقيقة تُعيدنا إلى جوهر الإنسانِ: حيث سيعيش قصّتهُ إلى الأبد.
لذلك كانَ الأدب سجلاً وذاكرةً نكتبه بهموم النفس البشرية، ونقرأ روائع الأدباء لتُضاف إلى خبراتنا، فتكتمل شيئًا فشيئًا دائرة نضجنا.
وحضور وجع الإنسان في السينما لا يقلّ عمقًا؛ فـ«ويل هانتينغ» الشاب المتمرّد، كان عاملًا بسيطًا، لكنه العبقري في حلّ المسائل الرياضية. كان يخشى أن يُنكأ جرحه، فيثير غضب كلّ معالجٍ يحاوره، حتى اطمأن إلى طبيبهِ الأخير، فأصبح الحبّ سبيلَ خلاصه بعد جلسته الأخيرة.
وما أعجب هذه المفارقة عند ألبير كامو! حين قالَ في روايته الغريب:
«فكأنّ هذا الليل الذي لم نكن قد تبادلنا فيه أية كلمة قد عمّق صداقتنا»
وهو نفسه الذي كتبَ في روايته الطاعون:
«كانت السماءُ مغبرة اللون رغم زرقتها، ولم يكن يخفف من حدّة هذهِ الغبرة سوى وجود المساء».
هذا الوجود الإنساني المزدوج هو ما يلفتني في كتب الأدب العالمي. فهناك منْ سبقنا إلى كتابة مشاعرنا، وكأنه يتحدثُ بلسان حالنا. هو أمر يدعو للتفكر، حيث تفصلُ بيننا وبينهم القرون، ومع ذلك حين نقرأُ سطورهم نشعر بأنهم يكتبون نيابة عنّا، فيصفون ما نحس به تمامًا. حينها ندرك أنّ التجربة الإنسانيةَ واحدة، مهما اختلفت الأزمنة.
توقفتُ متأملةً ما وصفه هاروكي موراكامي في روايته رقص رقص رقص. حيث يقول:
«كنتُ أقفُ وحيدًا و مدحورًا في حالة من العدم التام». ثم تمكنت الدهشة مني عندما قرأتُ له في الرواية ذاتها أيضًا: «تلك هي الحياة ياصديقي. إنّ رمالَ الزمن تظلّ تجري من تحت أقدامنا. لم نعد نقف حيثُ كنا نقفُ قبل ذلك».
كتبت قبل أيام: ليس تافهًا كما يبدو، بل هوَ شرارة الحياة؛ ذلك الحماسُ الصغير الذي يتسلل إليكَ حين ترى في نفسك شغفًا وطموحًا.. هذه هي أحوال الحياة.

