علي عبيد الهاملي
كتب لي صديق سوداني معلقاً على مقالي «التمسك بخيار الحرب ليس بطولة» معبراً بمرارة عن تجربته الشخصية: «المتضرر الوحيد من قرار استمرار الحرب هو المواطن السوداني الذي جاع وضاع وفقد الغالي والنفيس.
كان تعليقاً صادراً من قلب أنهكته ثلاث سنوات من حرب لم ترحم أحداً، حرب جعلت السوداني الطيب، الذي لم يعرف يوماً سوى البشاشة، يقف اليوم على حدود العالم يحمل حقيبة سفر وذاكرة حزينة، لا يدري أين يستقر أو متى يعود.
سألت صديقي، الذي كان زميل عمل أيضاً، عن أحواله بعد انقطاع التواصل بيننا فترة، فجاءني جوابه: «تقاعدت منذ مارس الماضي، وحالياً أتجول بين الأهل في بريطانيا، والوالدة وشقيقاتي اللواتي هربن من جحيم الحرب إلى القاهرة ودبي.. كحال أحسن السودانيين».
لم تكن جملته الأخيرة عابرة. كان يقولها وكأنه يعتذر عن واقع لم يختره، واقع صار فيه الهروب نعمة، واللجوء فضيلة، والابتعاد عن النار مطلباً لا يلام عليه صاحبه. فالسودانيون، الذين طالما عرفوا بتمسكهم بوطنهم، صاروا اليوم أشبه بأوراق حملتها الريح نحو كل الأنحاء.
قبل ثلاث سنوات فقط، لم يكن أحد في السودان يتخيل هذا المصير. لم يكن السوداني يتخيل أن يأتي يوم يمنع فيه من العودة إلى مسقط رأسه، أو يسأل في المطارات: إلى أين تذهب؟ ولماذا خرجت؟ وكيف ستعيش؟
الحرب في السودان لم تهجر الناس فحسب، بل هجرت معهم طبائعهم وسكينة قلوبهم. السوداني الذي كان يستيقظ على ضحكات الجيران في أرض السودان، بات يستيقظ اليوم على رسائل متبادلة بين مخيم وآخر، بين بلد وآخر، بين مهْجر ومهْجر.
ومع ذلك، لا يزال بين المتحاربين في السودان من يصر على أن الحرب قدر لا بد منه، وأن صوت البندقية أعلى من صوت التفاوض. هؤلاء قلة، كما قال صديقي السوداني، لكن أثر أصواتهم يعلو لأن الحرب تضخم أصوات المجانين، وتكتم أصوات الحكماء.
من فقد منزلاً أو فرداً من عائلته، من نام في العراء، من مر عبر الحدود بحثاً عن حياة أقل قسوة، لن تقنعه الشعارات الزائفة ولا ادعاءات البطولة. هؤلاء يعرفون أن الحرب لا تنهي حرباً، وأن الحروب لا تجلب إلا الدمار.
سؤال بسيط، لكنه يحمل كل الحنين والخوف. السودانيون لم يتصوروا يوماً أن يصبح وطنهم ذكرى مؤجلة، أو أن يتحولوا إلى جائلين بين مدن العالم. كانوا يعتقدون أن السودان، رغم كل أزماته، سيبقى حضناً يتسع لأبنائه. لكن الحرب أخذت منهم ذلك اليقين، وتركتهم معلقين بين مطارات مختلفة ومنازل مؤقتة.
حين تطوى صفحة الحرب، سيفتح السودانيون نوافذهم من جديد، ويعود الذين تشتتوا في أصقاع الأرض، ليعيدوا بناء وطنهم كما يليق به؛ وطناً يستقبل أبناءه بالسلام لا بالرصاص. هذا اليوم قد يتأخر قليلاً، لكنه سيأتي دون شك، لأن الأوطان التي تبنى على المحبة لا تهزمها الحروب، مهما طال أمدها.
ليس في الحرب ما يغري، ولا في رائحة البارود ما يدعو إلى الفخر، مهما حاول البعض أن يجمل القبح أو يلبس الخراب ثوب البطولة.

