: آخر تحديث

العراق من سايكس - بيكو إلى الفيدرالية في مواجهة الشرق الأوسط الجديد

2
1
2

من يقرأ تاريخ العراق منذ رَسَمت القوى الكبرى حدوده في اتفاقية سايكس–بيكو عام 1916، مرورًا باتفاقيات سيفر ولوزان، يدرك أن هذا البلد لم يُبنَ إلا على خارطة قبل أن يُبنَى من إرادة شعبه، وأن كل مرحلة من مراحل حكمه كانت انعكاسًا لصراع داخلي وإقليمي ودولي. الدولة التي وُلدت على الورق عام 1921 لم تكتمل إلا بعد عقود من التجارب، حين وصلت الفيدرالية بعد 2003 لتفتح نافذة نحو مشاركة السلطة بين بغداد وأربيل، ولتعكس أخيرًا واقع العراق متعدد المكوّنات والقوى. ولكن الفيدرالية لم تتحول بعد إلى عقد شراكة متكامل؛ إذ أصبحت علاقة بغداد بأربيل وعلاقة الإقليم بالمركز اختبارًا يوميًا لتوازن القوة، وقوة الإقليم في بغداد تعكس قوة بغداد في الإقليم، كما أن كل خرق لهذه المعادلة ينعكس على كل العراقيين.

العراق بعد 2003 لم يبدأ من نقطة صفر؛ بل من تاريخ حافل بالمآسي: الأنفال، حصار التسعينيات، اقتتال 2006–2008، سقوط الموصل عام 2014، إرهاب داعش، والتهجير القسري للمكونات الأصلية مثل الأيزيديين والمسيحيين. كل هذه التجارب لم تصنع شعبًا منكسر الإرادة، لكنها صنعت وعيًا جديدًا يعرف أن الدولة ليست مجرد سلطة مركزية، وأن الفيدرالية ليست مجرد ورقة دستورية، بل تجربة حيّة لإدارة التنوع وحماية الحقوق، وإعادة بناء الثقة بين بغداد وأربيل وبين المكوّنات جميعها.

ومن زاوية دولية، العراق لم يكن يومًا محصنًا من نفوذ القوى الكبرى. منذ اكتشاف النفط أصبح لاعبًا في معادلات الطاقة، ومنذ الحرب الباردة تحولت أراضيه إلى رقعة صراع بين واشنطن وطهران وأنقرة والرياض، وكل انتخابات، بما فيها انتخابات 2025، ليست مجرد سباق داخلي، بل انعكاس لتوازن القوى الإقليمي والدولي، حيث يسعى كل طرف لفرض رؤيته للعراق: من يريده مستقرًا جسرًا اقتصاديًا، ومن يريده مشتتًا يبقى تابعًا، ومن يريده قويًا ليكون شريكًا في توازن المنطقة، ومن يريده ضعيفًا ليُعاد رسم خريطته وفق مصالحه.

في هذا السياق، قوة كوردستان في بغداد ليست مجرد نفوذ سياسي، بل ضمانة لاستقرار العراق، وقوة بغداد في الإقليم ليست سيطرة مركزية فقط، بل ضرورة لوحدة القرار الوطني. أي خلل في هذه المعادلة يهدد الفيدرالية نفسها، ويعيد العراق إلى دوامة الصراعات الداخلية التي تمنع الدولة من أن تصبح مشروعًا حقيقيًا.

والشرق الأوسط الجديد، الذي يُعاد فيه رسم الخرائط السياسية والاقتصادية بعد الحروب الأخيرة، لن يمنح العراق فرصة ثانية. من الخليج إلى إيران وسورية وتركيا، تتشكل تحالفات جديدة، وتُعاد كتابة قواعد النفوذ، والفراغات تُملأ بقوى جديدة، والضعفاء يُعاد ترتيبهم على الخريطة. العراق، إذا لم يفهم درس ماضيه ويحوّل مآسيه إلى وعي سياسي، سيجد نفسه مجرد رقم في لعبة كبرى لا تتوقف عن التغيير.

لكن العراق يملك ما يكفي ليكون دولة نموذجية: موقع استراتيجي على مفترق طرق الشرق الأوسط، ثروات نفطية وغازية ضخمة، عمق ثقافي وحضاري، وتنوع بشري قادر على صنع نموذج دولة فيدرالية ناجحة. ما لم يتحول مفهوم السلطة من غلبة واستئثار إلى شراكة ومسؤولية، وما لم تُفهم الفيدرالية كصيغة قوة لا ضعف، فإن كل هذه العناصر ستظل كامنة، ولن يتجاوز العراق مرحلة الدولة الهشّة إلى الدولة المكتملة.

وحين يحدث ذلك، حين تُبنى العلاقة بين بغداد وأربيل على الثقة والتوازن، وحين يتحول الماضي إلى درس للحاضر، يمكن للعراق أن يحرّر نفسه من عبء سايكس–بيكو، ويصبح نموذجًا لدولة فيدرالية حقيقية في الشرق الأوسط الجديد، دولة يعرف فيها الكورد أن قوتهم في بغداد، ويعرف العرب أن قوتهم في أربيل، وتكون خريطته الداخلية ودوره الإقليمي انعكاسًا لوعي شعبه وليس لمصالح الآخرين، ودليلًا حيًا على أن الشعوب التي لا تموت قادرة على إعادة كتابة مصيرها مهما أثقلها التاريخ وأعاقتها السياسة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.