: آخر تحديث

غزة بين اليأس والأمل.. هل نجح العدوان في كسر إرادة البقاء؟

1
1
1

لم يعد الحديث عن المعاناة في قطاع غزة مجرد سرديات عاطفية أو صور تتناقلها الشاشات لركام المنازل وأشلاء الضحايا فحسب، بل تحوّل الأمر إلى لغة أرقام باردة وقاسية، تكشف عن جروح غائرة في الوعي الجمعي الفلسطيني، ربما تكون أخطر من الجروح الجسدية ذاتها. إن نتائج الاستطلاع الأخير، الذي خرج من رحم المعاناة في القطاع المحاصر، لا تضعنا فقط أمام مرآة الحقيقة العارية، بل تقرع أجراس الخطر وتضع المفاوضين أمام مسؤولية أخلاقية وتاريخية تتجاوز نصوص الاتفاقيات.

عندما يصرخ ثمانون بالمئة من المشاركين في الاستطلاع معبرين عن سخطهم من ظروف الملاجئ، واصفين ترتيبات النوم ومرافق الصرف الصحي بالكارثية، فنحن لا نتحدث عن عدم راحة بمفهومها التقليدي، بل عن امتهان ممنهج للكرامة الآدمية. الاحتلال الإسرائيلي، ومنذ اليوم الأول لهذه الحرب، لم يستهدف الحجر والبشر فحسب، بل استهدف المناعة النفسية للمواطن الغزّي. إن تحويل الحاجات البيولوجية الأساسية – كدخول دورة مياه أو العثور على زاوية للنوم – إلى معركة يومية شاقة، هو جزء من استراتيجية كيّ الوعي، ودفع الناس للكفر بكل شيء، بدءاً من الشعارات السياسية وصولاً إلى التشبث بالأرض.

وفي قراءة متأنية للمفارقة، نجد أنّ أربعين بالمئة يشعرون بنوع من الرضا عن كمية وتوزيع الطعام، ونسبة مماثلة تشعر بالأمان النسبي داخل مجمعات الإيواء. قد يقرأ البعض هذه النسبة بإيجابية، لكنها في عمق التحليل تعكس مأساة خفض سقف التوقعات. عندما يصبح الحصول على رغيف خبز أو معلبات إغاثية هو أقصى طموح للمواطن، وعندما يصبح الأمان هو مجرد عدم سقوط صاروخ مباشر على الخيمة في تلك اللحظة، فإننا أمام إعادة تعريف قسرية لمفاهيم الحياة. هذا الرضا الجزئي ليس دليلاً على وفرة الخير، بل هو دليل على أن الغزيين باتوا يقارنون وضعهم الحالي بالموت جوعاً، فيختارون الرمق الأخير كإنجاز يستحق الرضا.

لكن الرقم الأخطر، والذي يجب أن يتوقف عنده الجميع، هو أن نصف سكان القطاع يفكرون في المغادرة، وأن الاتجاه السائد هو أن الهجرة أكثر أماناً من البقاء. هذه النسبة التي ترتفع بين الشباب وسكان الشمال تحديداً، تضعنا أمام الحقيقة المرة: إن سياسة الأرض المحروقة بدأت تؤتي ثمارها السامة في نفوس جيل كامل، بات يرى في الخروج من غزة طوق النجاة الوحيد، والرغبة في الهجرة هنا ليست خيانة، وليست تخلياً عن القضية، بل هي غريزة البقاء التي تصرخ في وجه الموت المحتوم.

وهنا لا بد من وقفة موضوعية ومكاشفة صريحة مع الذات، بعيداً عن التخوين أو المزايدات. إن حركة حماس، وباقي فصائل المقاومة، أبلت بلاءً حسناً في الميدان العسكري، وأظهرت صلابة فاجأت العدو والصديق. إلا أنّ الاستطلاع، الذي كشف عن رغبة نصف السكان في الهجرة، هو أقوى مؤشر على فجوة هائلة في إدارة الجبهة المدنية. فالصمود في وجه العدوان لا يُقاس فقط بعدد الصواريخ الصاعدة، بل أيضاً بقدرة الأسر على العثور على مأوى آمن ووجبة طعام. إن إهمال هذا الجانب الحيوي هو ما يهدد بتحويل الانتصار التكتيكي في الميدان إلى هزيمة استراتيجية في جغرافيا الوجود البشري، حيث ينجح الاحتلال في تهجير الناس طوعاً بعد أن عجز عن تهجيرهم قسراً.

وفي قلب هذا اليأس، تبرز ملاحظة الاستطلاع اللافتة: تمسك سكان دير البلح بالبقاء، وكونهم الأقل رغبة في المغادرة. في مقابل الموجة العارمة من الرغبة في الهجرة، تقدّم دير البلح نموذجاً مضاداً وأعطتنا بصيص أمل؛ إنها تثبت أن التشبث بالأرض ليس ضرباً من الخيال، بل هو خيار قابل للتحقيق عندما يتوفر الحد الأدنى من الاستقرار النسبي والأمان. دير البلح ليست مجرد مدينة، بل هي دليل ميداني على أن سياسة التهجير يمكن إفشالها إذا وجد الناس ما يدعوهم للبقاء.

إن المعضلة التي يعيشها سكان غزة اليوم، والممزقة بين جحيم الداخل وغموض الخارج، هي وصمة عار على جبين العالم المتحضر. فالشعب الذي صمد في وجه أعتى آلة حرب في المنطقة، لا يطلب المستحيل، بل يطلب حقه في أن ينام دون خوف، وأن يقضي حاجته بستر، وأن يطعم أطفاله بكرامة. وإذا لم يتفهم الجميع هذه الرسالة اليائسة من استطلاعات الرأي، والبدء في إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر حلول سياسية واقعية توقف النزيف، فإننا قد نكون أمام نكبة جديدة، لا تُفرض بالبنادق فقط، بل باليأس وانعدام الأفق. غزة لا تريد أن تُهَجّر، غزة تريد أن تحيا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.