: آخر تحديث

قال لي حاكم دارفور…

3
2
3

قال لي حاكم دارفور، لا بصوت الضعف، بل بصوت رجل يعرف أنَّ الكرامة آخر ما يمكن أن يُنهب، وأن الأرض إذا انكسرت تقف مرة أخرى، وأن دارفور مهما اشتد عليها الليل ستنهض فجراً أكثر صلابة مما كانت. كان يتحدث بصلابة مَن رأى الموت كثيراً، ولم يسمح له أن يغير رجولته ولا عزيمته.

قال لي، وهو يضع يده على قلبه كمن يحرس آخر قلعة في روحه:
دارفور يا أخي العربي ليست بقعة تُداس، بل راية تُرفع. وما يجري عليها اليوم ليس قدراً، بل امتحان رجال.

ثم أكمل، ونبرة الكبرياء في صوته أعلى من أي ألم:
المليشيات اعتقدت أنها تستطيع أن تُطفئ دارفور، لكنها نسيت أننا خُلقنا من صبر أعمق من الجراح، ومن عزة لا تُباع ولا تُشترى. نحن لا نحارب دفاعاً عن سلطة، نحن نحارب دفاعاً عن شعب له تاريخ لا يموت.

في الفاشر، المدينة التي يسمونها حبلى بالنور، روى لي ما لا يمكن للقلوب الضعيفة أن تتحمله.
قال:
الفاشر لم تسقط، الذي سقط هو مَن ظن أن دخولها سهل. المدينة باعتزازها أقوى من دخان الحرائق، وأكبر من ضجيج المليشيات. قد يحرقون جداراً، ولكنهم لا يستطيعون أن يحرقوا ذاكرة عمرها ألف عام.

تحدث بعمق موجوع، لكن بكبرياء رجل قائد يعرف أن الدماء التي تسيل على أرضه ليست دموعاً بل عهوداً.
قال:
رأيت الموت قريباً، ورأيت الخذلان أشد مرارة، لكنني لم أرَ في دارفور رجلاً واحداً تخلى عن أرضه. كل بيت هُدم خرج منه رجل أو امرأة أو طفل يقول: لن نرحل. نحن هنا.

ثم حدثني عن المليشيات، لكن دون خوف.
حدثني كمن يصف خصماً يعرف حجمه الحقيقي.
المليشيات جاءت لترهب، ونحن وقفنا لنربي. جاءوا لينهبوا، ووقفنا لنحمي. جاءوا ليكسروا الإنسان، فرفعنا الإنسان فوق الركام.

ثم أضاف بتأكيد لا يقبل الارتجاف:
لن نسمح لأحد أن يصنع من دارفور غنيمة أو ملكاً مغتصباً. هذه الأرض لها رجالها، ولها شيوخها، ولها نساؤها اللواتي يقفن في وجه الموت بثبات يشبه الجبال. نحن لسنا شعباً يُباد، نحن شعب يقاتل.

وصف لي الفاشر بمرارتها واعتزازها:
الفاشر مدينة إذا انطفأ فيها الضوء يشتعل رجالها. مدينة إذا بكت نهضت. وإذا انجرح أهلها ازدادوا قوة.

ثم قال جملة حفرت في الصدر:
دارفور تُجرَّح، لكنها لا تُهزم.

روى لي عن امرأة رآها تقف بين الرماد وهي تقول:
أحرقوا بيتي، لكن ما يقدرون يحرقون قلبي.
قالها وهو يبتسم ابتسامة حزينة مملوءة فخراً:
هذه المرأة أشجع من كل البنادق التي يحملونها.

ثم تحدث عن الخسارات، لكن بصوت لا يشبه الاستسلام:
نحن نخسر نعم: أرواحاً، بيوتاً، أسواقاً، ذكريات، لكننا لا نخسر شرفنا. الشرف باقٍ. والعزة باقية. والمليشيات مهما عرّت الأرض فلن تعري الإنسان الدارفوري.

سألته:
هل تشعر بالهزيمة؟
فابتسم كمن يعرف أن السؤال لا يستحق الرد.
قال:
لا يُهزم من يحمي أهله.
لا يُهزم من لا يهرب.
لا يُهزم من يرى الموت في عينيه ويقول له: لن تغير اسمي.

ثم ارتفع صوته قليلاً، وكأن التاريخ كله كان يقف خلفه:
الفاشر لن تُمسخ. أهلها لن ينقرضوا. والهوية هنا ليست ورقة تُحرق، بل جذوراً تمتد من القدم حتى هذا الصباح.

سألته عن أكثر اللحظات التي قصمت ظهره، فأجاب بنبرة موجعة لكن شامخة:
حين أقف أمام أم فقدت أبناءها أشعر أنني أقف أمام الجبل. لا أقول لها كلام عزاء، بل أقف صامتاً، لأن الصمت أمام عظمتها هو العزاء الحقيقي.

ثم أضاف:
دارفور نساؤها يصنعن الصمود، ورجالها يحرسون الحكاية، وأطفالها هم الذين يدفعون الثمن الأكبر.

لكن بالرغم من الألم، كان الاعتزاز يتقد في صوته:
نحن لا نبحث عن نصر سياسي، نبحث عن نصر إنساني. أن نمنع المليشيات من أن تعيد كتابة دارفور وفق مزاج الخراب. أن نعيد للناس حياتهم وبيوتهم ومدارسهم وأحلامهم.

ثم تحدث عن ليل دارفور الذي تغير شكله.
قال:
الليل كان زمان لراحة القلب، اليوم أصبح معركة خفية. لكننا تعلمنا أن نضيء الليل بالرجال. أصبحت ليلتنا أطول، ولكن عزيمتنا أعلى.

وبصوت يشبه الوصايا، قال:
دارفور ليست ضحية، دارفور مقاتلة. وما يحدث ليس سقوطاً، بل وقفة قبل النهوض.

ثم رفع رأسه بثبات:
أريد للعالم أن يعرف شيئاً واحداً:
نحن لا نقاتل لأننا نحب الحرب، نحن نقاتل لأننا نحب الحياة.

واختتم كلامه وهو يضع يده على صدره، كأنما يقسم:
اكتب يا أخي…
اكتب عن دارفور كما تراها: قوية، شامخة، مجروحة نعم، لكن واقفة.
ودع التاريخ يعرف أننا لم نركع، ولم نتنازل، ولم نترك أرضنا تُسلَّم للمليشيات.
دارفور ستعيش وستنهض، وسنحميها حتى آخر نبض.
هكذا قال لي حاكم دارفور.
وهكذا كتبت.
هكذا خرج صوته، مزيجاً من الجرح والعزة، من الدم والكرامة، من الليل الذي اشتد، ومن الفجر الذي يصر أن يأتي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.