في قصيدة «فقط في الليل تبدو المدينة جميلة» تتجلّى المدينة في شعر مروان ياسين الدليمي بوصفها كائنًا ذا روحٍ حية، تحمل ملامح التعب والحنين، وتعيش في مدارٍ من التبدّل الدائم بين الصخب والسكينة، بين الزحام والوحدة. تتقدّم المدينة في النص مثل كائن يخلع جلده ليتنفس بحرية حين يغيب النهار، وتظهر وجوهها الداخلية التي تخفيها الإضاءة العامة. يقول الشاعر:
«المدينة تتخفّف من وجهها العام / تغسل أصواتها في ماءٍ أسود لا ينعكس فيه شيء»لم يبقَ للمدينة لغسل وجهها به، سوى ماء الواقع، فينكشف العُقم! وتستعيد المدينة وعيها بذاتها، وتتحرّر من صورتها اليومية التي تفرضها العيون العجولة والوجوه العابرة. إن ماء الليل يغسل عنها الغبار الاجتماعي الذي تراكم فوقها، فتبدأ بالإنصات إلى نفسها.
الليل في هذا النص ليس إلا كشّاف، يخرج عن حالة السكون المعهودة، زمن الكشف. حين تخفت الأصوات، ينبثق ضوء داخلي من قلب المدينة، ضوء يشبه الوعي حين يستيقظ بعد تعبٍ طويل. هذا الضوء يمرّ في الأزقة والنوافذ والمصابيح الباهتة، فيعيد للأشياء صوتها المطمور. يقول الشاعر:
«كأنها تخلع أقنعتها لتقيس حجم وحدتها»إنه ضوء الاعتراف الذي يصدر عن صمتٍ عميق يتجمع في أركان المدينة. كل شيء في هذا المشهد يتكلم بلغته الخاصة: الأرصفة، الزجاج، الغبار، اللافتات، حتى الظلال. تتبادل المصابيح نظرات طويلة كما لو أنها تتآمر على الضوء الذي يغمرها، وتتحول الشوارع إلى عروق نابضة في جسدٍ واحدٍ يبحث عن معنى حضوره.
يمضي الشاعر في المدينة مثل شاهدٍ يكتب سيرةً للحجارة، يتبعه الصدى ويحادثه الغياب:
«كل حجرٍ في الطريق يتهجّى اسمي / وكل لافتةٍ تهمس بخوفٍ من الصباح»إن العلاقة بين الإنسان والمكان في هذا النص علاقة تأمل متبادل، كأن المدينة تتذكر ماضيها عبر خطواته، وهو يستعيد ذاته من خلال ما تهمسه الأرصفة له. الحنين في القصيدة شكل من أشكال المعرفة، والمعرفة هنا هي أن تدرك المدينة في لحظة سكوتها. حين يصغي الشاعر، يسمع الحديد والزجاج والغبار تتكلم بلغاتٍ متآلفة، وتستعيد حضورها الذي نسيه النهار.
تتحول المدينة في شعر مروان ياسين الدليمي إلى ذاكرة حيّة تتنفس بالظلال. في الليل تصبح النوافذ ممراتٍ للذكريات، والأضواء الخافتة تذكّر بأيامٍ كانت فيها الشمس أكثر صدقًا والعشاق أقل خوفًا. يقول:
«الضوء المتسرّب من المقاهي القديمة يشبه ذكرياتٍ لا تعرف في أي عامٍ توقّفت»إنها لحظة تتقاطع فيها الأزمنة، فيلتبس الماضي بالحاضر، ويصبح المكان مساحةً للحنين المستمر. كل ما في المدينة يمتلك ذاكرة تشبه ذاكرة الأمهات حين يتهجّين أسماء الراحلين دون بكاء. إن الحزن في القصيدة صفاءٌ يتيح للرؤية أن تكون أكثر شفافية.
الجمال في هذه القصيدة ينشأ من الهشاشة. المدينة تبدو جميلة حين تتعب، وتقترب من حدود ضعفها الإنساني. يقول الشاعر:
«أحبها في هذه الساعة / ساعة الخطأ الجميل / حين لا تكون جميلة لتُرى»جمالها، صدق لحظةٍ تواجه فيها ذاتها دون أقنعة. إن الخطأ الجميل هو الذي يمنح الأشياء طابعها الإنساني، ويحوّل الزيف إلى تجربة قابلة للتأمل. فحين تتجرد المدينة من صخبها، تكتشف أن قبحها كان قناعًا يخفي حنينها إلى البساطة الأولى.
يقدّم النص رؤية عميقة للزمن الحضري، حيث التاريخ يعبر الشارع في هيئة عامل نظافة، يحمل مكنسة ويدندن نشيدًا نسيه الوطن. هذه الصورة المدهشة تعيد ترتيب سلّم القيم في الوعي الشعري، فالعظمة تسكن في العادي، والقداسة تتسرّب إلى تفاصيل الحياة اليومية. يتحول الشارع إلى مسرحٍ للتاريخ الصامت، ويصير الإنسان المعاصر جزءًا من مشهدٍ أكبر يعيد تعريف معنى الوجود في المدينة.
في نهاية القصيدة، يقف الشاعر أمام نافذته، يكتب على الزجاج أنه بخير، لكن أصابعه ترتجف. تلك الرجفة هي ضوءه الداخلي، النور الذي يعرّي ذاته كما يعرّي المدينة. إنه ضوء الحنين الذي يمرّ من القلب إلى اللغة، ومن اللغة إلى الحجر. هذا الضوء يصغي إلى الحقيقة وهي تتشكّل في الظلال. كل ما يحيط به يصبح علامة على الوجود، وكل تفصيلٍ عابرٍ يحمل أثرًا من الإنسان.
تبدو المدينة في شعر مروان ياسين الدليمي مرآةً للوعي الإنساني في عصرٍ متعب. هي الكائن الذي يكتشف جماله حين يتخفّف من ضجيجه، والإنسان الذي يرى نفسه حين يخفت وهج الأضواء حوله. القصيدة تفتح المجال لتأمل فلسفي في معنى السكن والاغتراب، وفي طبيعة الجمال الذي يولد من الصمت. المدينة لا تكتمل إلا حين يعبرها الليل، والليل لا يكتمل إلا حين يشعل فيها ضوءًا من الداخل. ذلك الضوء هو الوعي الذي يمنح الأشياء معناها، ويحوّل العتمة إلى معرفة، والحنين إلى لغة، والجمال إلى صدقٍ هادئٍ يتوهّج من أعماق الوجود.


