سارا القرني
في خضم التحولات التقنية التي تجتاح العالم بسرعةٍ غير مسبوقة، يقف الإنسان اليوم أمام منعطفٍ تاريخيّ لا يشبه أي منعطف مرَّ به من قبل. فالذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة تُستخدم، بل أصبح قوة اقتصادية وتقنية تُعيد تشكيل كل القطاعات، وتعيد تعريف معنى النجاح، ومستقبل الوظائف، ودور الإنسان ذاته.
لقد تغيَّر العالم فعليًا حين انتقلت التقنية من كونها «وسيلة» إلى كونها «شريكًا» في اتخاذ القرار. فالشركات الكبرى اليوم تعتمد على خوارزميات أكثر مما تعتمد على البشر، والأسواق تُدار بتحليلات فورية لا تعرف التردد ولا الخطأ البشري، والمصانع تسير بوتيرة لا يمكن للعامل البشري مجاراتها.
لكن.. هل نحن مستعدون لهذا المستقبل؟ الحقيقة أن الذكاء الاصطناعي أعاد ترتيب الخريطة المهنية بالكامل. وظائف تختفي، وأخرى تولد، وثالثة تتحوّل. لم يعد المستقبل لمن يحفظ المعلومات، بل لمن يفكِّر، يبتكر، ويستطيع أن يتعامل مع التقنية كامتداد لقدراته لا كتهديد لمكانه.
التحدّي الأكبر ليس في تطور الآلة، بل في بطء تطور الإنسان. في مجتمعاتٍ تُقاوم التغيير، أو تكتفي بدور المتفرج، بينما العالم يركض. وفي مؤسساتٍ تخشى التجديد، فتخسر فرصًا كان يمكن أن تصنع مستقبلًا متفوقًا.
إن التحول التقني ليس خيارًا، بل ضرورة اقتصادية. والدول التي تفهم هذا الواقع تُعيد صياغة نظمها التعليمية، وتستثمر في المهارات المستقبلية، وتفتح الطريق أمام جيلٍ يفكر بلغات العصر: البرمجة، التحليل، البيانات، الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، والابتكار. وهنا، تتقدم المملكة بخطواتٍ ثابتة ورؤية واضحة، مؤمنة بأن التقنية ليست رفاهية، بل ركيزة لاقتصاد الغد. فالاستثمارات في الذكاء الاصطناعي، والابتكار، والمدن الذكية، لا تهدف فقط إلى اللحاق بالعالم، بل إلى صناعة مكانٍ متقدم في صدارة المستقبل. ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحًا: هل سيحل الذكاء الاصطناعي محل الإنسان؟
الجواب: سيحل محل الإنسان الذي يرفض التطور، لكنّه لن يحل محل الإنسان الذي يتقن التعامل معه.
فالآلة لا تملك الشغف، ولا الخيال، ولا الأخلاق، ولن تتمكَّن يومًا من صناعة المعنى الذي يصنعه العقل والروح. نحن لا نخوض سباقًا مع التقنية.. بل نخوض سباقًا مع نسختنا القديمة.
وفي عالمٍ يتغيَّر بهذه السرعة، لن ينجو إلا من يختار أن يتغيَّر، ومن يدرك أن المستقبل لا ينتظر المترددين. إن المستقبل ليس ملكًا للآلة.. بل ملكًا للإنسان الذي يعرف كيف يقودها.

