في قلب فيينا، وبين أزقتها التي تعبرها الموسيقى مثل نَفَسٍ قديم، كان هناك مطعم صغير، لا يُلفت الأنظار في صخبه، ولكنه يخبّئ في زواياه شيئاً لا تقرأه العين، بل تستشعره الأرواح التي مرت عبر أتون الغربة.
على طاولة قريبة من النافذة، حيث تمتد أشعة الشمس المائلة على أرضيةٍ مرصوفةٍ بحجارةٍ حفرت فيها القرون أسماء العابرين، جلس رجل وامرأته بصمتٍ كثيفٍ لا يقطعه سوى تنفّسٌ متباطئ، كأنهما يُعيدان تشكيل الزمن من حولهما، حجراً إثر حجر، ذكرى بعد أخرى.
لم يكن الصمت بينهما فراغاً، بل لغة خفية لا يتقنها إلا من مشى طويلاً في دروب العمر مع آخر، يواسيه ويُصغي لخطواته كما تُصغي الأرض لوقع المطر. أيديهم المتشابكة كانت تحمل أكثر من دفء جسد؛ كانت تحمل ذاكرة. ذاكرة بدأت في وطنٍ بعيدٍ، ومرّت خلال منافي شتّى، حتى وصلت إلى هذه اللحظة، كأن كل ما سبق لم يكن سوى تمهيد لهذا اللقاء، في هذا المكان الذي صار، مع الأيام، مرآة لحياتهم المتناثرة.
ذاك المطعم لم يكن مجرّد محطة طعام، بل مزاراً لذاكرة لا تكلّ عن العودة. شهد المكان الكثير من جلساتهما، من الضحكات المتعَبة، من حوارات قصيرة ووجيزة، ومن صمتٍ طويلٍ كان في ذاته قصيدة. كانا يأتِيان إليه بعد الغَداء، حين تنفضّ زحمة الزبائن، ويخفُت ضجيج الحديث، فتعلو نبرة الحنين. اختارا زاويتهما المفضّلة عبر السنوات، كمن يحجز مكاناً في الزمن.
وبين رشفات الشاي وأصوات الملاعق التي تُلامس الصحون بهدوء، كانا يستعيدان كل شيء. ومن هناك، بعد كل زيارة، كانا يصطحبان معهما ابنتهما الوحيدة، نور، في نزهة قصيرة عبر المول المجاور، ذاك الذي بُني فوق بقايا حيّ شعبي، تآكلته المدينة الجديدة كما يلتهم الزمن أطراف الماضي. المول لم يكن مجرّد مبنى شاهق من زجاج وحديد، بل كان شاهداً آخر على الحقيقة التي يعرفها جيداً المهاجرون: لا شيء يبقى على حاله، لا الأمكنة ولا الأرواح.
نور لم تكن ابنة بيولوجية فحسب؛ كانت بنت التحدي، ابنة المعجزة الصغيرة التي تنمو في ظلّ حرب. كانت خلاصة غربتهم، وثمرة حبّ نجا من العواصف، وامتحاناً مستمراً لمعنى الانتماء. فتاة في مطلع العشرينات، تعمل ثلاث نوبات أسبوعياً في المطعم ذاته، حيث تبدأ الحكاية كل يوم من جديد. لم تكن ترى عملها مجرّد وسيلة للعيش، بل نافذةً على الناس، على اللغة، على المدينة.
كان والدها ينظر إليها كمن ينظر إلى مرآته، لا ليختال بملامحه، بل ليتحقق من أنه ما زال قائماً، ما زال قادراً على الحلم. فيها وجد ظلّه، وفي صوته، وجدت نفسها. كانت تنصت إليه كما لو أن كل حرف منه يُشكّل بُنية جُملةٍ داخلها، وكل فكرةٍ يزرعها تنمو كجذع يتسلّق ذاكرة المكان.
هو الذي خرج من بلاده مثقلاً بالخسارات، لا يحمل سوى حقيبة وثقافة، لم يكن يبحث عن وطن بديل، بل عن فسحة يعيش فيها بكرامة. ترك خلفه ماضياً مسروقاً، ووطناً صار صوته نشازاً في لحن الحرب. كان وطنه ذات يوم مهد الحرف، موطن الشعر والكتب والضحكات الممتدة على الشرفات، لكنه لم يعد كذلك. تغيّر، تهدّم، تفكّك. صار كلّ مَن يغادره يشعر وكأن قطعة من روحه فُصلت عنه، دون ألم ظاهر، لكن بندبة لا تندمل.
أما نور، فكانت الوطن البعيد يزهر في داخلها. كانت قد بدأت حياتها الأكاديمية في بلادها بدراسة الرياضيات، ذلك العلم المجرّد الصارم، الذي انكسرت معادلاته أمام انفجارات القذائف ونحيب الأمهات. هربت مع عائلتها كمن يهرب من الطوفان، بلا وداع، بلا خارطة، بلا يقين. سلكوا درب اللاجئين الطويل، ذاك الذي لا يتوقف عند محطات الراحة، بل يمرّ على حقول الشكّ، وجبال الانتظار، وينتهي في أحضان مدنٍ لا تشبههم ولكن تُنقذهم.
حين وصلوا إلى فيينا، كانت اللغة هي المعركة الأولى. الألمانية جدارٌ بارد، شاهق، لا يُحطَّم بسهولة. لكنها، بتصميم صخريّ، خاضت الغمار. أعادت الدروس، دخلت الدورات، تجاوزت الامتحانات، ووقفت على قدميها كما يقف الشجر في أرضٍ جديدة، يرسل جذوره إلى ما تحت الإسفلت، وينتظر مطر المعنى.
دخلت كلية الهندسة المدنية، لا لأنها تهوى المعمار فحسب، بل لأنها أرادت أن تبني. أرادت أن تعيد للحيطان نبضها، للمدن شكلها الإنساني. وهناك، في ممرات الجامعة الصاخبة بلغات شتّى، التقت بشاب يشبهها. مهاجر مثلها، طموح مثلها، ينتمي لنفس الريح. لم يكن لقاؤهما درامياً، بل هادئاً، كما تنمو الزهرة في شقّ صخرة.
تشاركا الحب كما يتشارك العابرون رغيف الطريق. تزوجا، واستقرّا معاً في شقة صغيرة، تنظر على المدينة من علٍ، وتنتظر كل صباح ميلاد حياة جديدة. عملا، درسا، تعبَا، بنيا، زرعا. لم يلجآ يوماً للمساعدات، لم يريدا أن يكونا أرقاماً في دفاتر المساعدات الاجتماعية. أرادا أن يكتبا سطرهما بأيديهما، أن يحترقا نوراً لا عبئاً.
والد نور، الصحافي الذي طوّحته المنافي، وجد فيها امتداداً لحلمه الذي لم يُكمل. كانت تستمع إلى مشاريعه الأدبية والثقافية كما تُصغي الأرض للغيم، وكانت تقرأ له وتناقشه وتبتسم حين يذكر فصلاً من روايته القديمة. لم تكن فقط ابنة، بل كانت صديقة الحلم، وممرّ العزاء، وحاضنة الرغبة التي ذوت ولم تمت.
كانت تفهمه بصمت، تعرف أنه لم يخرج من وطنه طوعاً، بل قُذف من حضنه كما تُقذف السفن من الموانئ وقت الطوفان. كانت ترى خلف كلماته جراحاً مغلفة بورق الأدب، وشغفاً لم يجد من ينصفه. لذلك لم تكن تحاوره بعقل الابنة، بل بروح المُداوية، كأنما تضع على جرحه ضماد الحنان.
وفي ذاك اليوم، كما في أيام كثيرة قبله، جلس الأب والأم في المطعم ذاته، بانتظار انتهاء نوبة نور. لم يكن مشهداً درامياً، بل لحظة عادية بحجم الدهر. جلسوا بثبات، بلا ضجيج، كأنما يقولون: نحن هنا. نجونا. بنينا. لا نحتاج تصفيقاً، ولا شهوداً.
وخارج النوافذ، كانت فيينا تشاهدهم. تلك المدينة المتحف، التي تتنفس الفن وتغتسل بالضباب، نظرت إليهم بلا استغراب. لا تعرف أسماءهم، لا تروي قصصهم، لكنها شعرت بحضورهم. صارت المدينة، رغم صمتها، جزءاً من حكايتهم، كما صاروا هم جزءاً من نسيجها. لا بوصفهم أجانب، بل بكرامتهم الصامتة، بتفاصيلهم الصغيرة التي تخلق من الوجود معنى.
هكذا تُنسج الغربة الحقيقية: ليست بكاء على الأطلال، ولا فقداً أبدياً. بل أن تبني جداراً في مكان لا جدران لك فيه، أن تزرع وردة في إسمنت الوقت، أن تُنجب حلماً في أرضٍ لا تعرف اسمك. أن تكون مرئياً، حتى لو لم يرك أحد.
ربما لهذا السبب، حين دخلت نور عليهم وهي تخلع مريول العمل وتبتسم بتعبٍ جميل، شعر الأبوان بشيءٍ يشبه الانتصار. ليس انتصار المعركة، بل انتصار البقاء. البقاء رغم كل شيء.
جلس الثلاثة، كما اعتادوا، في صمتٍ دافئ، والضوء الذهبي ينسكب على الطاولة من نافذة كبيرة تطلّ على ماضٍ لم يَعُد، ومستقبلٍ يتشكّل. لم يحتاجوا إلى كلام. كانوا يعرفون أن ما عاشوه ليس مجرد نهاية فصل، بل بداية كتاب.
وفي الخلفية، كانت المدينة تنصت دون أن تتكلم، تحتفظ بذكراهم، كما تحتفظ المكتبات القديمة بالكتب التي لا تُقرأ كثيراً، ولكنها ضرورية لأن تبقى.


