: آخر تحديث

نسخة مدمجة

2
2
2

نحن في حاجة ملحّة إلى نسخة مدمجة تجمع بين النسخة القديمة التي تحكمنا منذ قرون طويلة، وهي الجهل والفقر والأميّة والتخلف والغباء الطبيعي، وبين النسخة الحديثة، وهي المعرفة والتحرر والعلم والابتكار والذكاء الاصطناعي. فالمجتمعات كانت ولا تزال وستظل تعيش مستمتعة بنسخة قديمة مخادعة ومزيّفة باتقان، ارتضت بها وأدمنتها منذ قرون طويلة. وخشية أن تكشف النسخة الجديدة زيف النسخة القديمة، كان الحل هو إخراج نسخة مدمجة يمتزج فيها الجهل بالتكنولوجيا، مما يعزّز مكانة النسخة القديمة ويعمّق جذورها.

في هذه المجتمعات لا شيء حقيقي أو طبيعي الآن، لا شيء على الإطلاق، كله زيف وتزييف وتزوير وكذب ودَلاسَة وخداع: تاريخ وجغرافيا وعقائد واجتماع وعلوم وفن وثقافة وسياسة وغذاء ودواء وصوت وصورة، عدا حقيقتين فقط لا تزالان صامدتين لم تسقطا بعد، وهما الموت ودورة الشمس والقمر. لكن من يدري ماذا يخبئ المستقبل؟ وبدلًا من النهوض بهذه المجتمعات المتخلفة وإنقاذها من مستنقع الجهل الغارقة فيه منذ أمد بعيد، بدلًا من ذلك طوّعوها لتؤدي الهدف نفسه وهو السيطرة على أدمغة الرعاع وتصنيع تسونامي من الميديا الرخيصة الكاذبة المضللة. وبدلًا من استخدام هذه الثورة التقنية في التطور والحداثة، استخدموها في إغراق هذه المجتمعات بسفاهات وسفالات وترهات لتظل هذه المجتمعات أسيرة مغيّبة تأكل ما لا تزرع وتستهلك ما لا تصنع وتتقاتل على لا هدف، وتتصارع على وهم. مجتمعات عنصرية ممزقة الهوية، مشطورة التاريخ والجغرافيا، نازفة الدم والثروة. مجتمعات أسلمت أمرها لأفاقين كذبة مضللين يسوقونها سوقًا إلى نهاية محتومة عاجلًا أو آجلًا، وهي مزبلة التاريخ.

عندما أبدع الباحثون المجتهدون المفكرون المهمومون بشؤون هذا الكوكب، عندما أبدعوا هذه الخوارزميات العبقرية بغرض تسخيرها لتحسين جودة حياة سكان الكوكب كله: صحة وغذاء ودواء وتعليم واتصال، في الوقت نفسه كان لهؤلاء القابعين في مستنقع الجهل والأميّة رأي آخر. فقد استخدموا قشورها في الابتزاز والتزوير واللصوصية والخداع، وإبقاء هذه البقعة المنكوبة من الجغرافيا قابعة في قاع مستنقع التخلف والتشدد والعنصرية والاحتراب، بينما ينعم بقية الكوكب بنتائج هذه التقنية التي تشكّل ثورة في عالم الحداثة والولوج إلى المستقبل، مستقبل المعرفة والبحث والتجريب والابتكار والاستدلال والمنطق، وهي أدوات العصر لمن يريد الالتحاق بركب العصر. لكن الالتحاق بالعصر يتطلب إرادة، وهي معدومة بكل المقاييس؛ فالالتحاق بركب العصر يتطلب حرية وجرأة وثقافة وديمقراطية واكتفاء وعدالة ومساواة، وهي عناصر لا تتوافر في مجتمعات تدمن غيبيات موروثة، أسيرة لنظام القبيلة والعرق والمذهب، محكومة بتعاليم كتب صفراء عفا عليها الزمن. ومحاولة مجرد محاولة الخروج من هذه المنظومة أو عليها هي مخاطرة كلفتها باهظة دفع ثمنها كثيرون من دمائهم وحياتهم وحريتهم. وقد جرت محاولات للثورة على هذه الأنظمة قام بها شباب من مصر وتونس ولبنان والعراق والسودان، إلا أنه وعلى الفور تم تحويل مسارها وإجهاضها أو ركوب موجاتها ثم وأدها إلى الأبد. وبات من المرجّح أن هذه البقعة من الكوكب ستظل قابعة لعقود قادمة في قاع هذا المستنقع إلى أن تهب موجات أخرى متأثرة بالنسخة الحداثية (الأوريجينال) وليست النسخة المدمجة التي طوّعوها لأغراضهم.

 

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف