في الوقت الذي لا نزال فيه ندور - بوعي مُرتبك أحيانًا - حول محيط تاريخنا، لم نمدّ بعد أصابع الدهشة إلى العمق الذي ينتظر أن نلمسه؛ ذلك العمق المزدحمُ برحيل القبائل، وبصدى خطوات الأجداد، وبالوجوه التي حفرتها الشمسُ ونسيتها الرواية، لا نعرف حقًّا متى سنشرع في الالتفات إلى مخزوننا الهائل، التاريخي والجغرافي، بكل ما فيه من ضوءٍ مُهمَل وظلالٍ مُتراكمة على أطراف الأزمنة؛ متى سنستعيده من كتب الآخرين، ونعيده إلى مجرى الصورة والصوت والحكاية، دراميًّا وسينمائيًّا، ليقول لنا ما لم يُقَل بعد.
فالجهودُ التي قُدِّمت على مستوى العمل التلفزيوني - في السنوات التي غاب فيها حضور السينما قسرًا عن حياتنا الثقافية - انحصرت غالبًا في تتبّع التحولات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية التي مرّت بها البلاد منذ التوحيد العظيم على يد الملك المؤسس، وهي بلا شك جهودٌ مقدّرة، شكّلت في وعي الناس قوّة ناعمة وأثّرت في رؤية المجتمع لذاته، لكن ما قبل التوحيد… تلك الحقبة الغامضة التي كان فيها أجداد أجدادنا يقاومون الطبيعة، الجوع، والسُخرة، ويصوغون حياتهم من الرمل والغياب… بقيت في الظل، تشبه غرفةً قديمة أُغلق بابها لفرط الحياء أو لفرط النسيان، تلك الأزمنة التي عاشت خارج عدسة الكاميرا، ظلّت نائمةً في كتب المستشرقين وروايات المؤرخين الأوائل، أولئك الذين كتبوا عنا من موقع المُنتصر، فحمّلونا رؤيتهم هم لا رؤيتنا نحن، ولأننا لم نُمحّص ما دوّنوه، صرنا نردّد تاريخًا لا نعرف مدى صدقه، ونستعير صورة لا نعرف من أين جاءت، ونتعامل مع عصورٍ كاملة وكأنها لم تكن سوى معبرٍ بائس إلى دولةٍ عادلة عظيمة، لن ندرك أثرها علينا مالم ندرك أوجاعنا وهمومنا وعذاباتنا قبلها.
اليوم، ونحن نقف على أعتاب الغد كما أراده سمو ولي العهد: غدٌ يبني فوق الأمس لا ضده، ويستدعي جذوره لا ليتباهى بها بل ليجعلها دربًا إلى ما بعد المستقبل… اليوم فقط ندرك أن تاريخنا ليس زمنًا انقضى، بل موروثًا حضاريًا يعيش في الرمل والجبال وشقوق الوديان، ويحتاج فقط إلى عينٍ تُعيد إليه صوره، وصوتٍ يُخرجه من صمته الطويل، نحن بحاجة إلى أن نخرج من دائرة «قبل الصحوة» و«أثناءها» و«ما بعدها»؛ تلك الدائرة التي ضيّقت الخيال وحصرت الدراما في بئر واحدة تدور حول ذات المرحلة، فهناك ما هو أبعد وأشدّ حضورًا: أطفالٌ ناموا جياعًا، رجالٌ ماتوا عطشًا، نساءٌ عبرن الصحراء بحثًا عن ظلّ، قبائلُ تشاجرت على مورد ماء، قوافل ضاعت في الرمل، وأيامٌ كانت الحياة فيها تُقاس بطول الليل وبعدد النجوم، إنه تاريخ حيّ، وليس مجرد قيدٍ على ورق، لقد آن الأوان أن نفتّش في الرفوف الرمليّة التي تركها الأجداد وراءهم، هناك قصصٌ لم تُروَ، شخوصٌ لم تولد بعد، وعالمٌ بكامله ينتظر كاميرا لا ترتجف، وقلمًا لا يخاف، وقلبًا يُصغي إلى ما لم يُكتَب!
أيها الروائيون… بين أيديكم مفاتيح التاريخ، لستم مجرّد كتّاب حكايات، أنتم حَمَلةُ ذاكرةٍ كاملة؛ ذاكرةٍ لم تُنصِتوا لها بعد، اكتبوا ما سكت عنه الزمن، واجعلوا الرواية تسبق المؤرخ حين يعجز، وتجعل الصورة تنصف الأرض حين يُهمِلها الكلام، قولوا لنا تاريخنا كما يجب أن يكون… لا كما رواه الغرباء في ليلةٍ مظلمة.

