كل متابع للأحداث يدرك ان الشرق الأوسط يشكل بؤرة دائمة للصراعات والحروب، ليس بفعل عوامل ثقافية أو دينية محضة، بل نتيجة تشابك معقد من المصالح الجيوسياسية والصراعات على موارد الطاقة، إلى جانب استغلال ممنهج للدين من قبل جماعات متطرفة تجد دعماً إقليمياً ودولياً. هذه المعادلة المركبة تجعل من استمرار الصراع أمراً شبه حتمي، خاصة في ظل غياب إرادة سياسية حقيقية لتفكيك منظومة الإرهاب وتجفيف منابعه.
من وجهة نظري كمراقب، فإن العالم لم يتعلّم بعد من دروس أفغانستان والعراق، ولم يدرك أن تجاهل جذور الأزمات يولّد صراعات أكثر عنفاً وأطول عمراً. ما يجري في الشرق الأوسط اليوم ليس إلا استمراراً لدورات سابقة من الفشل الدولي في بناء منظومة أمنية عادلة ومستقرة. فالتاريخ يعلمنا أن كل مرة يُترك فيها فراغ في السلطة أو الأمن، تملأه الجماعات المتطرفة، لتتحول الساحات المنهكة إلى معامل تفريخ لجيل جديد من الإرهاب.
بلاشك فإن الصراع على النفوذ بين القوى الإقليمية الفاعلة والمتعددة، يضيف طبقة إضافية من التعقيد، حيث ان كل دولة تسعى لتوسيع دائرة نفوذها مستخدمة أدوات متعددة، بما في ذلك دعم الجماعات الإرهابية والفصائل السياسية التي تتبنى أجندات طائفية ومذهبية، مما يحول المنطقة إلى ساحة حرب بالوكالة تدفع شعوبها الثمن الباهظ.
في هذا السياق المشحون، يبرز دور "شياطين" استغلال الدين كعامل محوري في إدامة الصراع. تنظيمات مثل القاعدة وداعش والإخوان المسلمين وحماس ليست مجرد حركات عقائدية منعزلة، بل أدوات جيوسياسية توظف الخطاب الديني لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية. أعتقد أن أخطر ما في هذه التنظيمات هو قدرتها على إعادة إنتاج نفسها عبر سرديات دينية تُغلّف مشاريع سياسية خالصة. هذه الجماعات تتقن فن تحويل الصراعات السياسية إلى حروب دينية ومذهبية، مما يضمن استمرارية العنف وتجدده عبر الأجيال. الأخطر من ذلك هو التنسيق والدعم الذي تتلقاه هذه الجماعات من دول إقليمية وحتى غربية من حيث التقاعس، او حيث توفر البيئات الحاضنة التي تمنحها بعض الدول لعناصر هذه التنظيمات إمكانية إعادة تنظيم صفوفها وتخطيط عملياتها ودعمها لوجستياً.
علينا ان ندرك ان مفهوم الإرهاب يتوسع ليشمل ما يمكن تسميته بـ الإرهاب المهاجر، حيث لم تعد التنظيمات المتطرفة محصورة في الشرق الأوسط، بل وجدت في الغرب وأمريكا بيئات أكثر ملاءمة للنمو والتطور. ونستطيع ان نرى ان الثغرات القانونية في أنظمة اللجوء والهجرة، إلى جانب خطاب الحريات المدنية الذي يُستغل بشكل انتقائي، توفر غطاءً لتسلل عناصر متطرفة تحت ستار البحث عن فرص للحياة والعمل.
إننا ندرك ان أعمال العنف التي شهدتها المدن الغربية في العقد الأخير — من هجمات باريس ومانشستر إلى اعتداءات برلين وسان برناردينو — ليست أحداثاً معزولة، بل امتداد مباشر للصراع في الشرق الأوسط، وان الخلايا النائمة التي نجحت في الاستقرار في الغرب تمثّل وجهاً جديداً لدورة العنف، حيث يُعاد تصدير الإرهاب من الشرق إلى الغرب والعكس. هذه العملية المعقّدة لم تُخضع بعد لضوابط أمنية أو سياسية كفيلة بوقفها، مما يعيد جذور الإرهاب إلى الشرق الأوسط في دائرة مغلقة من العنف والانتقام.
الحقيقة انه في هذه المعادلة المعقدة، تبرز تجارب بعض الدول في مكافحة الإرهاب، واهمها دولة إسرائيل حاليا، حيث ادت دوراً محورياً في القضاء على قيادات الإرهاب، ونجحت مراراً في استهداف رموز وقيادات تنظيمات متطرفة بعمليات استباقية ودقيقة. لكن هذا الجهد الأمني، مهما كانت فعاليته، يظل محدود التأثير في غياب تعاون إقليمي شامل وضغط مستمر من الولايات المتحدة باعتبارها القوة العالمية العظمى التي تدرك أن أمنها القومي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بما يحدث في الشرق الأوسط. الواقع يشير إلى أن القضاء الفعلي على الإرهاب يتطلب استراتيجية شاملة تشمل تجفيف منابع التمويل، والقضاء على القيادات والفاعلين بشكل دوري ومستمر دون تقاعس، ومحاسبة الدول الداعمة للتطرف.
وبينما تبقى المواجهة الفكرية والاجتماعية ضرورية، لا يمكن أن تُعوَّل وحدها على كسر دورة العنف؛ لذلك أرى أنّ الاستراتيجية العملية يجب أن تتضمن تصفية دورية، مستمرة، وممنهجة لقيادات والعناصر الإرهابية — عمليات دقيقة تستهدف البنية القيادية والعقدية للمنظمات وليس فقط مظاهرها العرضية — بما يضمن خفض مستوى الخطر وتحطيم قدرة التخطيط والتمويل.
إلى جانب ذلك، لا بد من ممارسة عقوبات اقتصادية قاسية ومستمرة على الدول والجهات المموّلة والحاضنة للتنظيمات الارهابية؛ عقوبات لا تُرفع مادامت شبكات التمويل تعمل وتمنح التنظيمات ملاذاً وغطاءً لوجستياً. كما على الغرب والولايات المتحدة أن يمتنعوا عن الاستسلام لمعادلة الابتزاز التي تربط مصالحهم بمصير ملفات الأمن، وأن يُفعِّلوا آليات العدالة الدولية ووسائل الحظر المالي المصرفي لتجميد أصول الممولين وملاحقة سلاسل الدعم بكل صرامة.
في الحقيقة، أرى أن العالم أمام لحظة حاسمة؛ فالإرهاب لا يُساوَم عليه، والدول التي تزرعه ستُجبر عاجلاً أو آجلاً على دفع الثمن كاملاً… وبالعملة التي تفهمها جيدا... الردع الصارم.

