تبدو واشنطن وكأنها تخلّت تمامًا عن لغات الإيحاء والمجاملة. فالإدارة الأميركية، عبر مبعوثها الرئاسي مارك سافايا، دخلت مباشرة إلى قلب المشهد العراقي برسالة سياسية لا تحتمل التأويل، رسالة بثلاث «لاءات» تشبه إعلان حدود جديدة لما هو مسموح وما هو محظور في لحظة ما بعد انتخابات العراق السادسة. حين كتب سافايا: «ليكن واضحًا أن الولايات المتحدة لن تقبل أو تسمح بأي تدخل خارجي في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة» لم يكن يضع جملة بروتوكولية، بل كان يعلن انتقال واشنطن من مرحلة مراقبة المشهد إلى مرحلة هندسة المشهد نفسه، بعدما وجدت نفسها أمام احتمال ولادة حكومة جديدة تُسلّم العراق بالكامل إلى محور طهران، وتعيد إنتاج معادلة النفوذ ذاتها التي أضعفت الدولة واستنزفت مؤسساتها منذ سنوات.
ترى الولايات المتحدة أن وصول حكومة يهيمن عليها الإطار التنسيقي لن يعني استمرار الفوضى في ملف السلاح والميليشيات فحسب، بل سيقود أيضًا إلى تحويل الوزارات السيادية إلى أدوات نفوذ إقليمي، وتمرير صفقات اقتصادية تعمّق ارتباط بغداد بطهران، وفتح ممرات مالية قد تُستخدم لكسر طوق العقوبات الأميركية. والأسوأ بالنسبة إلى واشنطن أن يتحول العراق إلى ممر لوجستي مفتوح نحو سوريا ولبنان، ما يضع مصالحها في قلب دائرة الخطر ويغيّر توازن المنطقة بشكل لا يمكن التحكم به لاحقًا. لذلك جاء التحرك الأميركي متزامنًا مع لحظة حساسة داخليًا: إعلان الإطار عن تشكيل «الكتلة الأكبر». وفي تلك اللحظة لم يكن ظهور سافايا في وزارة الدفاع الأميركية حدثًا عابرًا؛ كان إشارة واضحة إلى أن الملف العراقي خرج من حسابات وزارة الخارجية ودخل إلى مركز القرار الأمني. الرسالة التي تسربت من ذلك الظهور كانت تنص على معادلة بسيطة: لا تعاون عسكريًا، ولا دعمًا، ولا التزامًا طويل الأمد، إذا جاءت الحكومة المقبلة على هيئة ما تريده الفصائل لا ما يحتاجه العراق.
وفي وسط هذه التحولات، تقف أربيل أمام لحظة لا تقل حساسية عن بغداد. فالإقليم الذي عانى لسنوات من تذبذب الحكومات المركزية بين شدّ واشنطن وجذب طهران، يقرأ لاءات سافايا الثلاث بوصفها فرصة لإعادة التوازن لا مجرد موقف أميركي عابر. أربيل ترى أن حكومة تُبنى تحت سقف السيادة ستفتح الباب أمام تسوية الملفات العالقة جميعها: الرواتب، والميزانية، والنفط، والمنافذ، ومستقبل البيشمركة كشريك شرعي في المنظومة الدفاعية العراقية. ولذلك تبدو كردستان اليوم ميّالة لدعم مسار حكومي جديد لا يسمح بابتلاع الدولة ولا يعيد إنتاج مركزية تهيمن عليها الفصائل. إنها لحظة يدرك فيها الإقليم أن قوة بغداد الحقيقية لا تأتي من نفوذ موازٍ أو ولاءات خارجية، بل من دولة تمتلك قرارها وتوزّع العدالة السياسية والاقتصادية على الجميع. فالحكومة التي تُبنى بلا سيادة ستعني دورة جديدة من التوترات التي يدفع ثمنها المواطن العراقي — في أربيل كما في البصرة — ولهذا يرى الإقليم أن اللحظة الأميركية الحالية قد تكون واحدة من فرصه النادرة لتثبيت شراكة مستقرة داخل عراق فيدرالي حقيقي لا ظلي.
وهكذا يقف العراق الآن أمام لحظة مفصلية تُعاد فيها صياغة قواعد النفوذ، لا داخل العملية السياسية فقط، بل داخل خريطة المنطقة كلها. فما قاله سافايا لم يكن رأيًا سريعًا على منصة اجتماعية، بل إعلانًا لمرحلة أميركية جديدة تُبنى على ثلاث لاءات واضحة: لا لحكومة تابعة لطهران، لا لتغوّل الفصائل، لا لتشكيل منزوع السيادة. وهذه اللاءات — مهما أغضبت البعض — أصبحت الإيقاع الذي سيُبنى عليه شكل الحكومة الجديدة قبل أن تُبنى.


