: آخر تحديث

برلمانات تُعيد إنتاج العجز

0
0
0

منذ أول دورة لمجلس النواب العراقي عام 2005، لم ينجح البرلمان في أن يتحول إلى مؤسسة تشريعية ورقابية بالمعنى الديمقراطي، بل ظلّ رهين الصفقات السياسية والولاءات العشائرية والحزبية، يُدار بعقلية الغنيمة لا بروح الدستور، ومع أن البلاد دخلت عقدها الثالث بعد إقرار الدستور، فإن أكثر من خمسين مادة دستورية ما تزال معطّلة، وعشرات المواد الأخرى تنتظر القوانين المكمّلة التي لم تُشرّع بعد، لا لعجزٍ فني، بل لأن تعطيلها أصبح أداة مقصودة بيد القوى المتنفذة، التي وجدت في استمرار القوانين المركزية القديمة وسيلة للاحتفاظ بنفوذها وهيمنتها، وتتجلى خطورة هذا النهج في الملفات السيادية الكبرى مثل النفط والغاز، والمناطق المتنازع عليها بين بغداد وإقليم كردستان، فبدل أن تُدار وفق مبادئ الدولة الاتحادية التي نصّ عليها الدستور، تُدار بمنطق الدولة الشمولية السابقة، حيث تُستغل الثغرات التشريعية لتوسيع سلطة المركز وإضعاف النظام الفيدرالي، كما أن البرلمان لم يلتزم بتشكيل الغرفة الثانية المنصوص عليها دستوريًا - المجلس الاتحادي - الذي يُفترض أن يُوازن بين المركز والأقاليم ويضمن التمثيل العادل للمحافظات، هذا الغياب عمّق الخلل البنيوي في النظام السياسي وجعل البرلمان غرفة واحدة أسيرة للكتل الكبرى وصفقاتها.

وعلى مدى الدورات المتعاقبة، لم تُنتج العملية الانتخابية سوى تحالفات تقوم على المال السياسي والولاءات الفئوية، فتحوّل البرلمان إلى ما يشبه سوقًا للمزايدات لا مؤسسة تشريعية، ومع اقتراب كل انتخابات، يُعاد تدوير الوجوه والشعارات ذاتها، في مشهد يُكرّس الإحباط العام ويفقد الناخب ثقته بأي تغيير ممكن، حيث لم تتوقف الأزمة عند حدود التعطيل الدستوري أو فساد الأداء، بل انحدرت العملية الانتخابية ذاتها إلى مستويات متدنية، مع انتشار ظواهر خطيرة مثل بيع وشراء بطاقات الناخبين، وتركيز المرشحين على وعود خدمية وشخصية لا تمتّ بصلة إلى دورهم الحقيقي كمشرّعين للقوانين ورقباء على السلطة التنفيذية، وهكذا تحوّل الخطاب النيابي من خدمة الدستور إلى خدمة الأصوات.

إن ما أنتجته البرلمانات منذ عام 2005 لا يشي بأي احتمال لتحسّن الدورة المقبلة، طالما تُستخدم الأدوات والأساليب نفسها التي أبقت البرلمان مشلولًا، فالمشكلة لا تكمن في النصوص الدستورية بل في غياب الإرادة السياسية لتفعيلها، وفي استمرار عقلية الغنيمة بدل فلسفة الدولة، وهكذا يستمر المشهد: انتخابات تُدار كصفقات، وبرلمان يُعيد إنتاج العجز، وقوى سياسية تستثمر في تعطيل الإصلاح لتبقى هي ذاتها في الواجهة، فيما يبقى المواطن متفرجًا على مسرحية تتبدل فصولها كل أربع سنوات، ولكنها لا تنتهي أبدًا.

ولعل تجاوز هذا العجز البنيوي المزمن لا يكون بتبديل الوجوه في كل دورة انتخابية، بل بإصلاح البيئة التي تنتجها، فالمطلوب أولًا إعادة النظر في قانون الانتخابات بما يحدّ من سطوة المال السياسي والعشيرة والدين على إرادة الناخب، ويعيد الاعتبار إلى البرامج والمشاريع لا إلى الولاءات، وثانيًا، تأسيس المحكمة الاتحادية الدستورية العليا ومؤسسات الرقابة المستقلة لتضمن احترام الدستور ومنع تعطيله بالمساومات، وثالثًا، حصر امتيازات النواب وضبط الإنفاق العام، كي لا تتحول النيابة إلى مغنم شخصي بل إلى تكليف تشريعي مؤسساتي، وأخيرًا، لا بد من إطلاق مشروع وطني للتثقيف البرلماني والمدني يعيد تعريف وظيفة النائب بوصفه مشرعًا ورقيبًا لا موظف خدمات، ويعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة.

بهذه الخطوات فقط يمكن للبرلمان أن يتحول من ساحة لتجارة الأصوات إلى منبر لإرادة الأمة، ومن مصنع للأزمات إلى مساحة للحلول.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.