قد يختلف معي الكثيرون فيما سأطرح لأسباب تتعلق بطبيعة الشخصية التي أتناولها، من جهة أنها مثيرة للجدل داخليًا وخارجيًا حسب رأي الكثيرين، ولكني سأحاول القراءة بطريقة غير تقليدية لتقييم استراتيجية الرئيس ترامب تجاه القضية الفلسطينية.
ولكني في تحليلي أجد أنه يجب التفكير خارج الصندوق، والذي في بعض الأحيان يمكننا من الوصول إلى معطيات يمكن البناء عليها خصوصًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أما فيما يتعلق بباقي الجدل حول شخصية الرئيس ترامب، فإنني أعتبرها شأنًا آخر لا أرغب في التطرق إليه.
فبغية الوصول إلى تحليل أكثر منطقية يجب العودة قليلًا إلى الوراء، إلى بداية وصول الرئيس ترامب للحكم بعد فترة الحكم الثنائية للرئيس باراك أوباما، الحاصل على جائزة نوبل للسلام، والذي لم أرَ أنه فعل شيئًا من أجل السلام! بل زاد في عهده الخراب والفوضى في جميع أنحاء المعمورة بدلًا من إحلال السلام.
ولكن لا بأس سأتجاوز وسأعود للرئيس ترامب، ففي بداية الفترة الرئاسية الأولى في كانون الثاني (يناير) 2017، رُوِّج لما سمي في وقته "صفقة القرن" ودُعي الرئيس محمود عباس لزيارة البيت الأبيض، حيث التقاه في 2 أيار (مايو) 2017، وكان لقاء مبشرًا بالكثير، وبعده زار السيد جيسون غرينبلات فلسطين والتقى بالرئيس عباس، وأفاد في حينه أنه سمع منه كل شيء يتعلق بالموضوع الفلسطيني، وما لبث أن زار الرئيس ترامب بدوره فلسطين في 23 أيار (مايو) 2017، حيث التقى بالرئيس عباس في بيت لحم، ولكن في ذلك اللقاء عُكست الصورة بسبب فريقه الذي اعتقد جازمًا أنه قد تواطأ مع رئيس الوزراء نتنياهو لإفشال ذلك المسار الواعد بصورته الأولى وأدى ذلك إلى تغيير الأمور بشكل دراماتيكي، ويعود السبب في ذلك إلى الهيمنة الكلية لإسرائيل على النخب السياسية في الولايات المتحدة الأميركية، بما في ذلك مجلسا الكونغرس والشيوخ، وعدد كبير من الشخصيات العامة والمؤثرة، بما يشمل حتى سفراء أميركا نفسها، وبذلك لم ينجح ترامب في وضع فكرته موضع التنفيذ، وبعد أن تم خداعه من وجهة نظري من قبل دائرته المغلقة، وفي النهاية تم تحويل خطته الطموحة إلى موضوع هلامي الشكل والموضوع سمي في حينها "بالسلام الإبراهيمي" بعد أن فشل مؤتمر البحرين فشلًا ذريعًا، والذي شكل مخرجًا له في ذلك الوقت.
ولكن التفاصيل التي رشحت عن الصفقة قبل إعلانها الرسمي كانت مبشرة إلى نحو ما، ويمكن تلخيصها في أنها تطرح حلًا للقضية الفلسطينية بإقامة دولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبعض أجزاء القدس، وقيام مصر بمنح أو تأجير أراضٍ إضافية للفلسطينيين من أجل إنشاء مطار ومصانع وللتبادل التجاري والزراعة دون السماح للفلسطينيين بالعيش فيها، كما شملت إنشاء جسر معلّق يربط بين غزة والضفة لتسهيل الحركة، وعلى أن تُجرى انتخابات ديمقراطية لحكومة فلسطين خلال عام من الاتفاق! وأنه سيتم فرض عقوبات على جميع الأطراف الرافضة للصفقة بما في ذلك إسرائيل، ولكن التحول كان في يوم 28 كانون الثاني (يناير) 2020، حيث تم الإعلان وبحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن "صفقة القرن" بعد أن تم تغيير جوهرها، وبعد أن تمت السيطرة على طموح ترامب، ونصّت في حينه على وجود مرحلة انتقالية من أربعة أعوام، وذلك انتظارًا لمتغيرات سياسية ستدفع السلطة الفلسطينية إلى التخلي عن موقفها الرافض للخطة حاليًا!! كذلك شملت إعلان سيطرة إسرائيل على 30 بالمئة من الضفة الغربية ضمن المناطق التي تعرف باسم "ج"، وإبقاء مدينة القدس موحّدة تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة؛ وأيضًا ضم جميع مستوطنات الضفة الغربية التي يزيد عددها عن 100 مستوطنة بهدف منع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرض فلسطين المحتلة.
ولكن كان الرئيس محمود عباس حاسمًا وقاطعًا في إعلان رفضه المطلق للخطة قائلًا: «القدس ليست للبيع، وكل حقوقنا ليست للبيع والمساومة وصفقة المؤامرة لن تمر، وسيُذهبها شعبنا إلى مزابل التاريخ كما ذهبت كل مشاريع التصفية والتآمر على قضيتنا العادلة»، وقال إن الاستراتيجية الفلسطينية ترتكز على استمرار الكفاح «لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتجسيد استقلال الدولة وعاصمتها القدس الشرقية»، وشدد على التمسك بالثوابت الوطنية، كما أشار كبير المفاوضين د. صائب عريقات في حينه إلى أن صفقة القرن هي نسخة من مقترح إسرائيلي قُدم لنا في 23 أيلول (سبتمبر) 2012، وهنا يجب أن أشير إلى أن الرئيس محمود عباس هو القائد الوحيد الذي تحدى ترامب في تلك الفترة وأفشل المؤامرة وهذا يُحسب له.
أعود للرئيس ترامب لأقول إنه بعد أن خسر الانتخابات وبغض النظر عن الأسباب، واكتشافه لحجم التآمر الذي قام به نتنياهو بالتعاون مع طاقمه، لم يستسلم، وإنما عمل خلال فترة حكم الرئيس بايدن على تقييم تجربة المرحلة الأولى من حكمه وبدأ بشكل سريع في تدارك وتحديد أخطائها، والنظر في كيفية تحقيق ما كان يرغب به منذ البداية، فتواصل مع جهات إقليمية ودولية مختلفة! ونظر في أمور عديدة وتوصل في النهاية إلى نتيجة مفادها أنه من أجل الوصول لما يريد يجب أن يخضع قوى كبرى وأنظمة فاعلة كمرحلة أولى، وأنه ينبغي عليه تمتين تحالفه السابق مع المملكة العربية السعودية داعمه الأساسي والمقتنع بما يطمح إليه ليكون الرافعة الأساسية لمشروعه الطموح ومدخله الأساسي للشرق الأوسط من جهة. وأن يضع حدًا للنفوذ القوي لمنظمة الأيباك، واللوبي المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى.
فبدأ ولايته الثانية بتنفيذ وبشكل سريع للغاية العديد من الأمور التي بوجهة نظري تدل على عزمه للمضي قدمًا فيما عقد العزم عليه، فعمل أولًا على تحييد اللوبي المؤيد لإسرائيل في بلاده وتهيئة رأي عام أكثر مرونة فيما يتعلق بهذه النقطة، وقد استعمل في وجهة نظري أدوات قد تبدو للبعض سيئة للغاية، لاسيما في موضوع الجامعات الأميركية وتأيدها للقضية الفلسطينية، وغيرِها من السياسات غير المقبولة للتضييق على هامش الحرية فيما يتعلق بالموضوع الفلسطيني من وجهة النظر العامة، ولكني أنظر إليها من زاوية مختلفة، وعلى أنها تصب في زيادة التعاطف مع فلسطين والابتعاد عن التعاطف مع إسرائيل، ويأتي كل ذلك من أجل السيطرة على إسرائيل وتحييد اللوبي القوي لها في مراكز صنع القرار وهذا ما حدث بشكل كامل ونراه الآن، حتى إن الإسرائيليين أنفسهم أصبحوا يرون أن إسرائيل أصبحت الآن محمية أميركية بعد أن كانوا العكس هو الصحيح!
وفي السياق نفسه، جعل كل دول العالم تنحني أمام عاصفة الرسوم الجمركية التي أطلقها ليفرض سطوته، ويعلن عن قوته، وبالرغم من تأييدنا أو رفضنا لها، ثم وضع يده على موضوع الحرب الروسية الأوكرانية والتقى مع الرئيس بوتين من أجل كسر الجليد والنظر في حلول قد تكون مقبولة، وزاد من قوة خلف الناتو وتمتين صلابته، ثم قام بجولات قادته لعدد من الدول المحورية في العالم بما يشمل العربية منها، كما تكفل بشكل مباشر بالموضوع الإيراني وكف يد إسرائيل عنه لتحييد إحدى وسائل ابتزازها للعالم ولتحييد التخادم الذي استمر بينهما لعقود! وبذلك أصبح يملك من القوة ما يمكنه من فرض رؤيته من جديد عبر خطة جديدة أكثر واقعية ومقبولة من حيث المبدأ من مختلف الأطراف، وخصوصًا الطرف الفلسطيني، تم تنسيقها بعناية مع المملكة العربية السعودية وحدث كل ذلك خلال عام واحد فقط من توليه فترة رئاسته الثانية.
والآن وبعد أن مرر قرارًا في مجلس الأمن الدولي لتنفيذ الشق الثاني من خطته الطموحة والتي تسعى لتنفيذ رؤيته الأساسية "صفقة القرن المعدلة" واعتمادها من مجلس الأمن، قبل زيارة ولي العهد السعودي! أصبح من الواضح للجميع جدية سعيه لحل قضية معقدة عمرها يزيد عن مائة عام ويزيد. وهنا لا يجب أن ننسى بالمطلق الجهد الجبار الذي قادته المملكة العربية السعودية في هذا المضمار والذي تحول لجهد عربي وإسلامي ليحدث الفارق ومن ثم دولي بعد بناء التحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين، بقيادة فرنسية سعودية، حيث حدث كل ذلك من أجل طرح خطة مقبولة بشكلها العام لكل الأطراف وقابلة للتطوير بسبب مرونتها في العديد من الأمور. ولا شك أن الزيارة التاريخية التي قام بها سمو ولي عهد المملكة سيكون لها أثرها المباشر بعد التصريحات العلنية من الطرفين، وخصوصًا دعوته لولي العهد السعودي ليكون جزءًا من مجلس السلام، والتي أرى أن هذه النقطة بالذات لها دلالات إيجابية كبيرة، والتي تشي بأن الخطة تسير في الاتجاه الصحيح والمتفق عليه، فهذه المرة تختلف عن سابقاتها ولدينا الكثير من الدلائل التي تشير إلى أنها قابلة للتحقيق، منها ما هو معلن ومنها ما لم يتم إعلانه ولا يزال يتم التكتم عليه لحماية الخطة من عبث إسرائيل وحلفائها، في سعيها الدائم للقضاء على فرص السلام، كما فعلت طوال الوقت عندما يتعلق الأمر بموضوع الدولة الفلسطينية، والأيام القادمة كفيلة بتعزيز هذا التفاؤل.
وقد يقول لي البعض أنت من الحالمين البسطاء، ولكن أقول لهم إني من الواقعيين المؤمنين بضرورة التأقلم مع المتغيرات واغتنام الفرص دون التنازل عن الثوابت!
وهنا أرى ضرورة في أن أقتبس مرة أخرى ما قلته في مقالات سابقة لأختم به:
"عند اشتداد العاصفة المتشائم يشتكي منها والمتفائل يأمل في توقفها ولكن الواقعي يُعدل الأشرعة"
ونحن عدلنا أشرعتنا والتي ستقود سفينة شعبنا نحو دولته المستقلة بإذن الله.


