: آخر تحديث
في اليوم العالمي للفلسفة:

فيثاغورس… حين يصغي العقل إلى الموسيقى السرّية للكون

0
0
0

في ثالث خميس من تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام، يدعو اليوم العالمي للفلسفة—الذي أقرّته اليونسكو عام 2002—البشرية إلى وقفة تأمل وسط صخب العالم، كي تضع يدها على نبض الحياة، وتنصت للأسئلة الكبرى التي لا تهدأ. إنه يوم للاحتفاء ليس بالفلاسفة وحدهم، بل بالقدرة التي يمتلكها العقل الإنساني على التفكير، والمراجعة، والبحث عن الحقيقة مهما تعدّدت طرقها.

وفي هذا المشهد الرحب، يطلّ فيثاغورس كشعلة قديمة لم يخفت نورها، وكمعلّمٍ جمع بين دقّة العلم ورهافة الروح، حتى بدا—في نظر كثيرين—أقرب إلى الأب الأول للفلسفة، أو إلى الجسر الذي عبر منه الفكر الإنساني من الأسطورة إلى العقل.

من ساموس إلى مصر وبابل: ولادة عقلٍ يبحث عن النظام
وُلد فيثاغورس في جزيرة ساموس في القرن السادس قبل الميلاد، في زمن كانت الأسطورة فيه تُفسّر حركة النجوم والمطر والرياح. غير أنّ قلبه لم يطمئن لهذه الروايات، فقرر أن يسلك طريق المعرفة بقدميه. حملته رحلاته إلى مصر حيث تعلّم أسرار الهندسة والروحانيات، ثم إلى بابل حيث اقترب من علوم العدد والحساب وتقاليد التأمل القديمة.

عاد إلى اليونان وقد خرج من هذه الأسفار بفكرة حاسمة: العالم ليس فوضى، بل هندسة مقدسة. ومن هنا صاغ عبارته الشهيرة: كلّ شيء عدد. لم تكن هذه الجملة تقريرًا رياضيًا فحسب، بل إعلانًا عن ولادة نظرة جديدة إلى الكون.

فلسفة الأعداد: حين يتحول الرقم إلى مفتاح لفهم الوجود
رأى فيثاغورس أن الرقم ليس وسيلة للقياس فقط، بل لغة يتحدث بها الكون. كل حركة، كل مسافة، كل نغمة، كل جسم في الفضاء، يخضع لنظام عددي خفي. ومن هذا الإيمان وُلد مثلث فيثاغورس الذي تجاوز كونه علاقة هندسية ليصبح نموذجًا لفهم التوازن في الطبيعة.

بهذا الانتقال من الخرافة إلى البرهان، ومن الأسطورة إلى الحساب، ولدت أول بذور الفلسفة العلمية التي تنظر إلى العالم كمنظومة يمكن أن تُفهم بالعقل.

الفيلسوف الروحي: الإنسان بين الجسد والسمو
غير أنّ فيثاغورس لم يكن رياضيًا فقط. كان معلمًا روحيًا يرى أن الحقيقة لا تُدرك بالعقل وحده. أسّس مدرسة تبحث في تهذيب النفس وتطهيرها، وتدعو إلى الصمت والتأمل والاعتدال كشرط لفهم العالم.

أما الموسيقى فكانت عنده وجهًا آخر للحكمة؛ اعتبرها ترجمةً صوتية للحركة الكونية، ورأى أن الكون نفسه يعزف سيمفونية لا نسمعها بآذاننا، لكن أرواحنا تتأثّر بها. وهكذا جمع بين علم الأعداد ونسجام الأفلاك، بين الحسّ والعقل، وبين الرياضيات والفن.

فيثاغورس والله: فلسفة الوحدة والتناغم
لم يكن فيثاغورس فيلسوفًا عقلانيًا فقط، بل كان يفهم الإله باعتباره الواحد الذي تنبثق منه الموجودات كلها. في نظره، الرقم واحد ليس مجرد بداية للأعداد، بل مبدأ الوجود، والمصدر الذي يوحّد المتناقضات: المحدود واللامحدود، الفردي والجمعي، الظاهر والباطن.

اعتبر الفيثاغوريون أن دراسة الأعداد ليست علمًا مجردًا، بل طريقًا للتقرب من سرّ الوجود، وأن النظام الكوني عددي وروحي في آن واحد. ومن هنا ظهر تزاوج نادر بين العقلانية والروحانية، جعل من فلسفته نموذجًا فريدًا في تاريخ الفكر.

لماذا يعود فيثاغورس اليوم؟
في زمن الذكاء الاصطناعي، وحيث تتكدّس البيانات وتتسارع الخوارزميات، يصبح السؤال ملحًا: هل تكفي المعرفة لإنقاذ الإنسان؟

يردّ فيثاغورس بإرثه القديم–الجديد: العلم يحتاج إلى معنى، والمعرفة تحتاج إلى روح. ولا شيء يعوّض حاجة الإنسان إلى الحكمة التي تمنحه التوازن والسكينة ورؤية أعمق للعالم.

اليوم العالمي للفلسفة هو مناسبة لإعادة التفكير في دور الفلسفة في التعليم والحياة العامة، وفي قدرتها على حماية الإنسان من أن يتحول إلى رقم داخل معادلة لا يفهمها.

خاتمة… وسؤال يبقى مفتوحًا
لم يكن فيثاغورس عالم أعداد وحسب، ولا ناسكًا يطارد الحقيقة في الصمت، بل كان جسرًا بين ضفتين: ضفة العقل وضفة الروح. وربما لهذا بقي صوته حاضرًا في الذاكرة الإنسانية أكثر من ألفي عام.

وفي هذا اليوم العالمي للفلسفة، يبقى السؤال معلّقًا أمام كل قارئ: هل نستطيع نحن، في زمن الازدحام والضجيج، أن نجمع في حياتنا بين العلم والروح كما جمعهما فيثاغورس؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات